جدة: محمود تراوري

يغامر أحمد بوقري، بطرح المسكوت عنه، ويلج بجرأة وحرفية منطقة الجدل والإثارة التي غالبا ما رافقت الحديث عن منتج (السيرة الذاتية) في المجتمعات العربية ( المحافظة).

يقفز بوقري في (ظلال مكة) أحدث كتبه الصادر حديثا عن ( دار متون للنشر والتوزيع)، متجاوزا التابوهات التقليدية، فيتحدث عبر جماليات فنية عن تحولات المرء ودخوله مرحلة ما بعد الطفولة، حيث غرائز، وتغيرات جسدية وعاطفية، واشواق ورغبات، ذاكرا في إهداء الكتاب: (إلى أمي.. روح المكان.. وإلى روح أبي ناثرة عبق الذكرى)، قبل أن يشير إلى آلية ممارسة النوستالجيا التي اتبعها، محمولا على بيت الشريف الرضي:

«وتلفتت عيني، فمذ حفيت

عنها الطلول تلفت القلب».

المغيب، أو المحذوف

مؤكد أن كتابة أحمد بوقري ليست إبداعا جديدا في (السيرة الذاتية)، فهو فن عرفته الساحة السعودية مبكرا، ودونت نماذج بمثابة علامات في هذا الفن منها - مثالا - (رحلة العمر) لمحمد عبدالحميد مرداد، و(حياتي مع الجوع والحب والحرب) لعزيز ضياء، و (حياة في الإدارة) لغازي القصيبي، الذي عرض جانبا من سيرته العملية فقط، فيما أشار نقاد إلى أنه اختبأ في عمله الروائي الأول (شقة الحرية)، التي مثلت قدرا من سيرته، وبمكاشفةمما لم يجرؤ على عده سيرة ذاتية، وهذا ما أنجزه بوقري في كتابه الذي - بالضرورة - يثير تساؤلات متجددة عن فن كتابة «السيرة الذاتية» في المجتمعات العربية، وحجم أو نسبة المسرود، بمقابل المغيب، أو المحذوف، أو بوضوح، الممنوع برهبة سلطات متعددة منها ما هو اجتماعي/ ثقافي، وربما ازداد الأمر تعقيدا عندما تكون هذه الكتابة في ما عرفت بـ (المجتمعات المحافظة)، عن أهم مدينة مقدسة لدى هذه المجتمعات.

شفافية مجتمع كونته ارتحالات

إبداع احمد بوقري الحقيقي يكمن في تخطيه ما ميز هذا اللون من الكتابة (على المستوى العربي)، الذي لم يخرج بحسب عديد من تتبع هذه الظاهرة - يمكن استثناء أعمال قليلة أشهرها «الخبز الحافي» لمحمد شكري - عن إضفاء شيء من المثالية عن غير قصد، والتدوين بتوجه طهوري ملتزما بتقاليد السلطة الاجتماعية، وإما كتابة رسمية جدا، هي أقرب ما تكون لتقارير مهنية.وتشير دراسات أخرى إلى اللجوء لفن الرواية (القصيبي وشكري)، وكتابة نص يتضمن تخيلي مساحة من سيرة ذاتية، وهذا يرجع لحجم وطبيعة وقدرات مخيلة الكاتب.

لم يحتج أحمد بوقري لسعة مخيلة في كتابه، فهو يكتب سيرة، بطلها والده، والمكان، مكان يشكل إنسانا هو بمثابة -كما يصفه- أحد أبنائه «المكاوي مواطن عالمي»، في إشارة واضحة، إلى الاحتكاك بالحجاج والمعتمرين من كل اصقاع العالم، ( من كل فج عميق ).

إذ شكل الحج مدماكا محوريا في جسم السيرة، التي تميزت بشفافية جريئة، واللافت أنها - أي الجرأة - جاءت مرتبطة بالحج، حتى تكتمل الفكرة، بأن الحج مدرسة كبرى للمرء، ومعبر أسطوري عن المكان كرمزية وجغرافيا، وقيمة مكة كمكان مقدس، هي الأدوات، التي شكلت وعي وروح المدنية، وبالضرورة شكلت وجدان أهلها وسكانها.

تلمس أبواب الحنين

بشفافية آخاذة مثلت السمة الأهم للغة البسيطة / العميقة للعمل، يأخذك أحمد بوقري في أولى سطور الكتاب: (حين يراد للذاكرة أن ترتحل في المكان؛ مكة بشكل خاص، فإن صور المكان والتداعيات لا بد أن تنثال في سيل من الحكايا: حكاية الطفولة الأولى ومقدمات الشباب العنفوانية المليئة بالتحدي وحكايا البعد والتنائي، قبل أن يحل الترحال العكسي القسري خارج المكان والعودة إليه من جديد)، ثم يلقي بك في بطن وادي إبراهيم موضحا لك جذور علاقة ناتئة بالمكان، تستوي مع التنقل والارتحال المستمر (كان يسكن أهلي أسفل الوادي.. ومكة «واد غير ذي زرع»، يمتد هذا الوادي المقدس (ذو طوى) شمالا من المعابدة ويمضي جنوبا حتى يصل إلى سهل المسفلة، حيث تموت هناك في بيت مبني من الأجر الأحمر مكون من طابق واحد، وتلك الأيام (الستينيات الميلادية) كانت تُبنى البيوت الجديدة من الأجر الأحمر الصلب أو الحجر الجيري دون دهان-، وصلب عودي شابا في أزقة متربة ملتوية نتلمس في عتمتها كل ليلة أبواب الحنين، وتصطخب خلفها أصوات الجدات والأمهات وصراخ الأطفال معجونا بأصوات الأتاريك المشتعلة وقرقعة صحون العشاء تحت خيط الماء المصبوب من صنبور الحنفية الصدئة، من هنا تربى الحنين وكبر الحب وانطبع المكان في القلب، ومن هناك صرت ذاك الذي يعشق الترحال اليومي صوب الشمال وما أبهج الأنوار، هناك يمتزج النور الروحي بالنور البشري المتنوع؛ حيث تقع الكعبة المشرفة ومحيط الحرم المكي في قلب هذا الوادي تحفها الأسواق: «السوق الصغير»، وسوق الليل والجودرية، وتطل البيوت الوادعة تشرئب للنور من سفوح جبل قبيس وجبل هندي، وفي كل سفح لوالدتي ذكرى، وكل ذكرى صارت أطلالًا في مخيلتي..).

سقطة عنصرية

قد يستذكر قارئ ( ظلال مكة) العنصرية كأشنع مخازي البشرية في تاريخ الوعي المتحامل، حين تقع عيناه على : ( أيام موسم الحج تمتلئ عمارتنا بالحجاج طوال ثلاثة أسابيع وأكثر، وكنا نضع كل أثاثنا الثمين في غرفة واحدة وننتقل للعيش في غرفة على السطح. كانت سلالم العمارة تمتلئ بالحجاج السود وقوفا وجلوسا، وكانت روائح طعامهم وخاصة الأرز الأبيض المعجون تزكم أنوفنا، وكانت روائح أجسادهم المعرقة القوية لا تطاق.. ما كان يخفف عني هذه المعاناة الشمية، النظر إلى تلك المرأة السوداء الجميلة عارية الكتفين وهي تأكل بأصابع يدها اليمنى ما بقي في صحنها من طعام. ذات ليلة سوداء كالسواد المقيم في بيتنا، اقتربت من باب غرفة وقد تناهت إلى مسمعي أصوات فحيح الرغبة ).. وقد يتساءل عن الراقد في أغشية اللاوعي، من موقف قد يبدو عنصريا في هذا المقطع ، فالمنطق والموضوعية التي توقظ الوعي، تقول ببساطة أن ( الرائحة التي لاتطاق، سمة بشرية لكل الأعراق ما لم تكافح بالاغتسال ، ومناخ مكة معروف للقاصي والداني بالحرارة الشديدة التي تجعل كل البشر متساوين تقريبا في روائح الحج إجمالا، فلم يقصرها الكاتب على الحجاج السود !؟ فيما يمكن عده سقطة لمثقف وقع في براثن صورة ذهنية تعميمية يروجها العوام ، ولا ندري بم وكيف يبررها بوقري كفنان يملك وعيا ونبلا وحسا إنسانيا، وهو يعيد ( المحتوى العنصري المعادي للشعوب غير البيضاء، الذي يردد الأكاذيب نفسها التي نقلها الرحالة والمستكشفون البيض عن همجية السود وإنسانية البيض).

في السطوح..

تتضمن فصول الكتاب، توصيفا لسردية الحياة في مجتمع المدينة التي شكل الحج مزاجها العام، ومن جهة ثانية شكلت طبيعة المناخ آلية خاصة للتعاطي مع الطقس والمناخ، فيقول (في ليالي الصيف يحلو تناول العشاء في السطوح.. وليالي مكة في تلك الأيام ليست -كلها- صيفاً كما هي الآن. بعد المغرب أساعد أمي في تجهيز جلستنا السطوحية: جلالة مربعة غامقة، وليانات، ومساند.. ويتشكل مجلس العائلة. برودة الليانات تشعرني أحيانًا بنشوة نعاسية حقيقية، فتنبهني أمي

- قوم يا واد فز ساعدني في تجهيز العشاء).

ومم كان يتكون العشاء؟ لابد أن يوضح ذلك بوقري: (شكشوكة وبقايا من طعام الغداء، صحن بامية أو رجلة أو فول نابت مع تميس بسكوت، إلا أن سيد هذه المائدة المكية زبدية من قطع الخربز مخلوط بالثلج والماء والسكر. ينتهي عشاؤنا غالبا في العاشرة مساء).

وحين نستمر باقين في السطوح، يضيء أمامنا مقطع، أجاد بوقري به القفز فوق ابتذال المعنى قائلا: في السطوح تذوقت طعم الحب عن بعد، وفي السطوح تطوح جسدي الغض كرغيف خبز على جسد امرأة خلاسية ساخن.

لكن لراديو أبيه، حكاية أيضا تمثل مدخلا لعلاقة حميمة بين أب يمكن عده - بمعايير زمنية - من الطبقة الوسطى، وابن شب للتو عن الطوق (في أماسي ليالي الجمعة بعد صلاة العشاء، كنت ووالدي نعرج على سوق الصغير نبتاع عشاء تلك الليلة، جبنا وحلاوة طحينية ولدو وهريسة وحفنة من حلقات الشريك «خبز مكي خاص».

ثم ينسال بعذوبة في حديث شبه قليل في الكتابة العربية، إذ تقليديا غالبا ما يلتفت الكتاب لعلاقتهم بأمهاتهم، لكن هنا تجد بوقري يفرد مساحة شديدة الأهمية لوالده.. وبدا كمن يتلفت للوراء بذاكرة تقدح جرأة في استعادة أيامه، وشفافية تتماهى مع حميمية مكان أبحر بظلاله عميقا، موجدا ذاكرة بشرية لها قيمتها في التاريخ، ما شكل - ربما - أشد إغراء لأن يحفر كاتب كأحمد بوقري في تلك الذاكرة عبر (ظلال مكة).

أبي

يعشق أبي قضاء سويعات الأصيل في البلكونة. يضع راديو الخشب قربه ويظل يحرك إبرته حتى تستقر على محطة لندن العتيدة؛ كي يسمع آخر الأخبار بصوت المذيعة السعودية هدى الرشيد، وإذا تشكك في الخبر أزاح مؤشر الراديو إلى صوت إسرائيل وهو يصدح : هنا أورشليم / القدس. يمتعض قليلا لكنه يصغي بانتباه ضجر لما يورده من أخبار صحيحة في جانبها المسكوت عنه في إذاعاتنا العربية. وعندما يقطر المساء بدكنته العذبة يتحول إلى إذاعة القاهرة وهي تسكب في أذنيه من خرير موسيقى محمد عبدالوهاب الراقصة التي كانت فواصل لحدث فني أو برنامج شهير كبرنامج: لغتنا العربية.

يناديني بفرح وقد أسدل الليل أجنحته في رحاب بلكونته: - أحمد.. تعال.

- تعال اسمع معي وآتي إليه وقد تركت كتبي وأوراقي المدرسية ودفاتري. هذه الوصلة الغنائية لعبدالوهاب. أطرب فرحا لأن أبي خصني دون غيري من إخواني لمصاحبته جلسة السماع الغنائي التي تعود عليها كل مساء. - اسمع يا أحمد هذا الصوت الرخيم.. اسمع كيف يتنحنح عبدالوهاب بموسيقية راقية، اسمع كيف يحول الموسيقى شعرا صوتيا، اسمع كيف تنساب كالنهر الخالد.

يصيح:

- يا الله يا وهبو!

ينصت أبي طربا وقد اهتز رأسه، ويستغرق في سماع أغنية الجندول.. كأنه يستمع إلى نداء من بعيد.

ثم يلتفت إلي ويحكي بغيظ :

- كانوا يا أحمد يدخلون علينا البيت ويكسرون راديوهاتنا

الخشبية الكبيرة. - من يا أبي؟

- المطاوعة.. كانوا يتنصتوا علينا ويتجسسون ويتشممون بأنوفهم المعوجة أصوات لندن والقاهرة تتسرب من نوافذنا الخشبية المقفلة، وحين يقتحمون علينا بيوتنا نخبئ الراديو تحت مخدات نومنا أو تحت مواقدنا ويفلحون في تقفي أثرها في غالب الأحوال.. هم أعداء كل جديد يا ابني.. هززت رأسي موافقا.

أحمد بوقري



أحمد بوقري

- مواليد 1954م، مكة المكرمة.

- حاصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة البترول العام 1979م.

- عضو مجلس إدارة نادي المنطقة الشرقية سابقاً.

- كتب في الصحف والمجلات العربية: عكاظ، الحياة، اليمامة، الفيصل، أدب ونقد

والهلال وغيرها.

إصدارات:

الريح والمصباح

السيف والندي

الكتابة والزمن

خارطة للحزن والزيت

إيقاعات الجوع