خالد العويجان

الأحداث تتلاحق. والخنادق بعضها لا يجد من ينظر إليها، والبعض الآخر يمتلئ بالجثث وبواقي الرصاص وبقع الدماء. والهرج والمرج يسود العالم الذي يقف على قدمٍ واحدة. وعناوين الاخبار تشي بأن القادم سيشوبه كثير من الظلام.

التضيحة باتت تطل برأسها من نافذة كييف، فالمحرقة بحاجة إلى كبش فداء. والغرب كما يبدو فشلوا في عزل الدب الروسي عن العالم.

والتحالفات تنشئ مع شروق الشمس، وتنتهي وقت الزوال، ومصادر الطاقة دخلت في المعادلة السياسية، والتعويض عن تلك المنابع لا يكفي الحاجة ولا يفي بالغرض.

والقارة العجوز تجاوزت أزمة رغيف الخبز والحبوب، وتتأهب لتعيش شتاء قارصا، الضروس هناك سيسمع صوتها كثيرًا هذا العام نتيجة البرد، وسباق التسلح العالمي جاء دوره ليقول كلمته، والتي ربما تكون هي العلي، فقد التهم غول السلاح كلًا من السياسة والاقتصاد، والطاولات المستديرة، والمفاوضات تجاوزتها المرحلة، وبات الصوت الأعلى للأقوى والأكثر جرأة.

يتضح مع الوقت أن فلاديمير بوتين ابن وكالة الاستخبارات الروسية «كي جي بي» المعروف بأنه لا يجيد الهزل، كشر عن أنيابه، وجد نفسه بعد إعطائه شارة بدء الحرب على أوكرانيا في فبراير الماضي، أمام حائطٍ مسدود، نتيجة تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بهدف إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية لغرق موسكو في وحل الحرب مع كييف، وبالتالي استنزافها عسكريًا واستراتيجيًا واقتصاديًا.

لذا تحين الرجل اقتراب الشتاء لتوظيفه ضد حلفاء أوكرانيا في أوروبا، التي ستواجه فقدان الطاقة، وهذا ما سيفاقهم مواجهة هذا الفصل الذي يقود بعض الدول في القارة العجوز إلى الوفاة.

تحدث بوتين بخطابٍ متلفز قبل أيام، وأعلن التعبئة بكل جرأة ووضوح، بالمناسبة فهذا الإعلان هو الأكبر من حيث جموع الجيوش بعد الحرب العالمية الثانية، ويعتبر أهم من الضوء الأخضر الذي منحه سيد الكريملن لانطلاق الحرب ضد أوكرانيا.

لكن الأكثر أهمية من هذا وذاك في نظري، هو التصريح باستخدام السلاح النووي الذي جاء على لسان مسؤولين روسيين رفيعي المستوى بشكل علني، مرتان في غضون أيام، هما الرئيس ووزير دفاعه.

قال بوتين «أنا لا أمزح، هذا ليس خداعا، تريدون تدميرنا لكننا سندمركم، الغرب يمارس الابتزاز النووي، ولدينا هذا السلاح، والتعبئة بدأت».

ولم يتوان وزير الدفاع الروسي عن التلويح بذاك الأمر، وهذا يمكن فهمه من خلال قوله «جميع الأسلحة بما فيها النووية ستستخدم في الحرب الأوكرانية».

فالواضح أن صانع القرار في موسكو حاول وضع هذا القرار ليتحول كأداة ضغط، إلى جانب إيقاف تصدير الغاز الروسي لقارة أوروبا، يدرك أن الدول الأوروبية لا يمكنها مساندة ودعم كييف دون الولايات المتحدة، وحتى واشنطن لا تستطيع أن تتحمل الوقوف إلى جانب أوكرانيا دون تلك العواصم، وهذا يتضح من حالة التخبط التي عاشها الكثير بعد خطاب بوتين الناري، وأسهم في خلط أوراقهم.

أعتقد أن كلمة الرئيس الروسي التي كشف عبرها عن التوجهات الحديثة لبلاده، ترتكز على ثلاثة أمور، الأول: التأكيد على أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية ضالعة ومسؤولة عن إطالة أمد الأزمة مع أوكرانيا ، وفي ذلك رسالة مبطنة لكييف بأنها ستتحول مع الوقت إلى ورقة محروقة تتفاوض على ركامها تلك الدول مع موسكو وليس العكس.

والثاني: أنه مهما حاولت الأطراف المساندة لأوكرانيا السعي لاستنزاف روسيا، فإنها تستنزف نفسها بالدرجة الأولى – وهذا محاولة من بوتين لمخاطبة شعوب تلك الدول بأن مقدرات دولهم تحترق بعيدًا عن مصالحهم في حروبٍ لا لهم فيها لا ناقة ولا جمل -.

والثالث: خلق حالة عامة للرأي العام الروسي، أن بلادهم لا تزال تملك من القوى أكثر مما يتوقعه الجميع، وأن المعركة ستنحى منحى أكثر وحشية مما سبق وصولًا إلى الحسم بالانتصار.

قد أتفق مع بعض من يفسر قرار التعبئة بأنه نابعٌ من اخفاقات روسية منعت حسم المعركة لصالحها،وهذا فيه كثير من وجهة النظر الصائبة.

لكن بقدر ما يعجز الرئيس الروسي ووزير دفاعه ورئيس أركان الجيش التصريح بذلك – أعني الاخفاق -، لما سيكون له نتائج سلبية تنعكس على معنويات عناصر الجيش في ساحات القتال، بقدر ما تعي الإدارة الروسية أنه لا يمكن لها الخروج من هذه الحرب مرفوعة الرأس، لأن ذلك سينعكس على الداخل الروسي، وسيسهم - ربما - بعودة ذكريات تفكك الاتحاد السوفييتي إلى الواجهة من جديد.

وبعيدًا عن مشروعية الحرب من عدمها، وأحقية القيصر في استعادة إرث الأجداد الذي فرط فيه ميخائيل غورباتشوف في التسعينيات، حين تحول إلى حملٍ وديع ومال للمعسكر الأمريكي والغربي، ومنح الحق لأغلب دول بلاده المترامية الأطراف بإجراء استفتاء الانفصال، فإن الاستفزاز القادم من واشنطن كفيل بدفع موسكو للانقضاض على كييف، وترى أن استعادتها مشروع، في ظل وجود قانون دولي هزيل في أصله وأساسه.

الأيام المقبلة ستكون مفصلية للعالم بأسره، انطلاقًا من تحول المعادلة العسكرية الروسية في الحرب مع أوكرانيا لأسلوب الأرض المحروقة، التي لا تبقي ولا تذر، بينما يبقى الغرب وواشنطن أسرى لمفهوم أن موسكو مهما حاولت التلويح بالسلاح الفتاك، فهي لن تستطيع استخدامه، وهذا تفسيرٌ مجنون من عقولٍ قاصرة، ولا أريد أقول أنها ناقصة.

فالقيصر أشرك الطبيعة في حربه الضروس.

والحريق لا بد أن يشمل الجميع.

ليس بالنار وحدها..

إنما بموعدٍ مع شتاءٍ ملعون.