محمد السعيدي

شرف نشأة الدولة السعودية مكتسب ليس لأمة من الأمم المعاصرة شَرَف مثله، وأساليب العمل على إسقاط هذا الشرف وتشويهه باتت كثيرة ومتعددة الجهات والاتجاهات، ومنها الإلحاح الكاذب على ابتنائها على تاريخ تكفيري دموي، ومن المؤسف أن نجد أقلاماً وطنية تنساق مع هذا الاتجاه دون أن تشعر بخطورته تحت تأثير مزاعم العِلمية وتصحيح الاتجاهات إلى غير ذلك من الطروحات البراقة الكاذبة.

وقد كنتُ في سياق الدفاع عن الأسس الفكرية التي بنيت عليها هذه الدولة نشرتُ المقالتين السابقتين وذكرتُ ثلاثة نماذج من العلماء المناوئين للدولة السعودية الأولى ودعوتها الجليلة، ورأينا ما فيها من تكفيرٍ واستحلالٍ للدماء والأموال والأعراض، وكانت كذلك نماذج لعلماء الدولة العثمانية.

وبعد نشر المقالين تداول الناشطون في مواقع التواصل فتوى للشيخ ابن سحمان -رحمه الله - يُكَفِّر فيها الدولة العثمانية، وقوبلت هذه الفتوى بكثير من النقد والاستهجان والسخرية والتصيد. على أنها مثال للفكر التكفيري الذي نشأت عليه الدولة.

أما المنصفون المحبون للدعوة الواثقون بعلمائها فكثير منهم تساءل عن سبب هذا التكفير للدولة العثمانية، وطلب إجابة مقنعة تَرُدُّ على التساؤلات التي أثارتها هذه الفتوى، ويهدي بها الله المناوئين أو يُلجِمُهُم.

الحقيقة أن الأمر غير مُشْكِل إلا على فئتين من الناس:

الأولى: من ليس لهم إلمام بتاريخ الدولة السعودية ودعوتها.

الثانية: من ليس لهم إلمام بدقائق الدعوة السلفية وخصائصها التي بنت على أساسها تجديد الدين.

وإلا فإن ابن سحمان ليس أول من حكم بكفر الدولة العثمانية؛ بل سبقه بعض شيوخ الدعوة ليس منهم بالطبع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الذي لا أذكر له فتوى بذلك؛ كما أن هذه الفتاوى ليست مما ينبغي أن تبرأ منها الدعوة؛ بل مما ينبغي أن يُحفظ لها إذا عُرِفَ سياقها ومقدِّماتها، كما أنها ليست مما ينبغي أن يعاد نظره لأن تلك الحقبة ذهبت بكل سياقاتها سواء أأيدنا تلك الفتوى أم خالفناها.

وقبل الحديث عن هذا السياق والمقدمات يجب أن أبين أن الدعوة السلفية ليست هي البادئة بالتكفير، بل إن البداية كانت من الدولة العثمانية وعلمائها.

فعلى مستوى السلطة العليا من المشتهر جداً عند الباحثين أن السلطان محمود الأول [ت1168] كتب إلى الشريف مسعود إن المراسلات التي وصلت إلى القسطنطينية من الشريف مسعود بن سعيد شريف مكة تبين أن ملحداً لا دينياً باسم محمد بن عبد الوهاب، قد ظهر من الشرق، قام بضرب وإجبار سكان تلك المنطقة لإخضاعهم لنفسه عن طريق اجتهاد زائف..)، فهذا التكفير على مستوى القيادة العثمانية، والعجيب أن المناوئين للدولة السعودية وللدعوة السلفية يتجاوزون أمثال هذه العبارات ولا يُلقون لها بالاً في حين يشتدون في نقل كل شيء على الدعوة، وكأن التكفير سائغ في حق الدولة السعودية والسلفيين وحسب.

أما علماء الدولة العثمانية فقد حدث منهم ذلك كثيراً، ولم يتعرض له أحد بنقد، وفي المقالين السابقين ذكرنا ثلاثة نماذج من هذا التكفير، كما نقلنا ما ذكره ابن عبد الشكور من إجماع علماء مكة على تكفير السلفيين ومنعهم من الحج مستدلين بقوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام}.

وبناءً على هذه الفتوى تم منع السلفيين من الحج أكثر من خمسين عاماً ابتدأت من حج عام 1162هـ حتى عام 1216هـ.

فأين الغيورون على الإسلام من فتنة التكفير السلفي..زعموا!

وحين نبحث في سبب هذا التكفير الذي وُوجهت به الدعوة السلفية، نجد كل كتب هؤلاء المُكَفِّرِين أو المُبَدِّعِين للدعوة على كثرتها ليس معها إلا سبب واحد وهو زعمهم أن السلفيين يُكفرون المسلمين ويستحلون دماءهم، وقد أجاب عنه محمد بن عبد الوهاب نفسه، وجميع علماء الدعوة؛ لكن المناوئين ليسوا طلاب حق حتى يسمعوا تلك الردود.

ولو سَلَّمْنا بهذا الزعم تسليمَ جدل لا تسليم موافقة، فإن الخطأ بتكفير الآخرين لا يقتضي الحكم بكفر من فعله، وهذا إجماع العلماء كما بينت في المقالة السابقة.

أما السلفيون فمعهم أسباب وجيهة محل إجماع للحكم بكفر الدولة العثمانية آنذاك، فكان على المناصرين لها إثبات أن السلفيين أخطأوا في تنزيل تلك الأسباب على الدولة العثمانية، أما مجرد السخرية بالفتوى فلا يُفيد مطلقاً.

ومن تلك الأسباب: إقرار الدولة العثمانية للشرك والدفاع عنه وبناء الأضرحة والمزارات له، والزعم أن هذا هو دين الإسلام، وهذا كُفر بالإجماع كما قال الحجاوي في الإقناع: «أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعاً» 5 / 297، ولو أنهم كانوا يتركون أهل البدع ولا يعارضونهم، لكان ذلك فسقاً، وليس عملاً مكفراً، كما تفعل كثير من الحكومات اليوم في بلاد المسلمين من إقرار المزارات وعدم التعرض لأهلها، فإن ذلك ولا شك من التقصير، لكن المصيبة حين لا يكتفون بالإقرار؛ بل يزعمون أن تلك الأعمال هي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد يعترض معترض بالقول: إن حُكَّام الدولة العثمانية لم تقم عليهم الحجة، وهو شرط التكفير كما صرح به الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فالجواب: أن من حكموا بكفر الدولة العثمانية من علماء الدعوة يقولون: بل قامت عليهم الحجة، وقد راسلهم أئمة الدعوة من آل سعود وأوضحوا لهم خطر ما هم عليه بالدليل، ومن ذلك مكاتبات الإمام سعود بن عبدالعزيز مع سليمان باشا والي العراق، وهي منشورة بتحقيق الأمير فيصل بن مشعل بن سعود، فقد بان لوالي العراق وهو ممثل السلطان حقيقة الدعوة وسِلميتها، لكنه كابر وجحد، وخاف من العزل كما عُزل شريف مكة أحمد بن سعيد لما اقتنع بمبادئ الدعوة.

ودليل جحود سليمان باشا: أن جوابه للإمام سعود لم يخرج عن جواب علماء الدولة العثمانية، من أنهم حين يستغيثون بأهل القبور لا يعتقدون فيهم التأثير المباشر، والحقيقة أن ذلك خلاف الواقع المشاهد حتى يومنا هذا، فما من مستغيث بقبر إلا وهو يعتقد أن لصاحبه تأثيراً مباشراً من دون الله، ولولا ذلك لدعا الله تعالى ولم يدع صاحب القبر، كما أنهم يعتقدون أن للمقبورين صفات ليست إلا لله، تعالى الله عمَّا يُشركون كسماع جميع الأصوات بمختلف اللغات من الأماكن البعيدة، فمن يعتقد أن الجيلاني مثلاً يسمع دعاء الهندي والصيني والتركي من بلادهم وبلغاتهم وفي جميع الأوقات، كيف يمكننا التصديق بأنه لا يجعل لهذا الميت هذه الصفات الخطيرة ولا يؤمن بأن له تأثيراً مباشرا.

لكن الدولة العثمانية تعمدت إبقاء الخرافة والشرك بين رعاياها كسلاح لاستمرار السيطرة عليهم، ثم لم تبال بأن تترك جبهتيها الأوروبية والإيرانية مكشوفتين وتخسر المليارات في سبيل القضاء على الدولة السعودية الأولى، ولمزيد من الفائدة فإن أوروبا وإيران توقفتا عن مقارعة العثمانيين إلى أن انتهى صراعهم مع الدولة السعودية، وذلك نوع من الدعم لها في هذا الصراع.

وأيضا من أسباب تكفير بعض علماء الدعوة للدولة العثمانية تجريدها الحرب على التوحيد، إذ من المعلوم أن اقتتال المسلمين ليس سببا في تكفير أحد الفريقين، ولا زال المسلمون يقتتلون ولا يُكَفِّر بعضهم بعضا؛ لكن حين يكون القتال لأجل أن يُخمِدَ أحد الفريقين كلمة التوحيد، فهذا محل النظر، وقد تأمل من قال من علماء الدعوة بتكفير الدولة العثمانية في أسباب عدائها لهم، فلم يجدوا سبباً دنيوياً واحداً، بل السبب الذي يُسطره العثمانيون في مكاتباتهم هو سبب ديني وهو إخماد البدعة، أي بدعة التوحيد زعموا، وما يقال عن الخوف السياسي من الوهابيين خاصة بعد استيلائهم على مكة يُمكن الطعن فيه بسهولة فإن حملات العثمانيين ضد الدولة السعودية من العراق ومن الحجاز ودعمها لحملات آل عريعر من الأحساء كلها كانت قبل دخول مكة، بل قبل أن تتسع دائرة حكم السعوديين خارج الدرعية وبعض قرى العارض.

ومن الأسباب كذلك: أن السعوديين لما حصلت بينهم المواجهة العسكرية المباشرة وبين العثمانيين، رأوا من القرائن ما يُصَدِّقُ القول بكفر الدولة، ومن ذلك عدم إقامتهم للصلاة في معسكراتهم، واصطحابهم لصناديق الخمور معهم، وشيوع الفسوق وارتكاب الكبائر بين جنودهم دون أي رادع من قياداتهم، واكتشاف أن أكثر من نصف جنودهم من النصارى الإيطاليين والمالطيين، فقد وجدوا أن القتلى من جنود العثمانيين ليسوا مختونين، وهذه سمة النصارى الذين جاؤوا بهم لإخماد بدعة الوهابية!

كل ذلك ذكره الجبرتي في تاريخه وهو مؤرخ مصري عاش تلك الحقبة، قال بالحرف نقلاً عن أحد الجنود العثمانيين: إن جنودهم لم يكونوا يستدينون بدين ولا ينتحلون مذهبا.

وكثير مما في هذا المقال نشرتُه في ورقة علمية بعنوان «ورقات حول الدرر السنية» موجودة على الشبكة الحاسوبية.

والذي أنتهي إليه هو أن كُلَّ هذه الإثارات هي عمل منظم لإفقاد شبابنا الثقة في تاريخ دولتنا السعودية والدعوة السلفية التي قامت عليها، لكن ذلك لن يثنينا عن الجزم بعظمة النشأة السعودية التي هي ذخيرة لنا، ليس لأحد غيرنا مثلها، وحقها أن يفخر بها العالم الإسلامي بأسره.