هل تختلف طريقة التفكير من أمة إلى أمة؟ وهل تتأخر أو تتقدم الأمم بسبب نوع طريقة تفكيرها؟ وهل من الممكن تغيير طريقة تفكير أمة ما؟ هذه أسئلة يتساءلها الكثير من العرب؛ لكي نفهم هل تختلف طريقة تفكيرنا عن طريقة تفكير الأمم المتقدمة؟ أو عن طريقة تفكيرنا في السابق عندما كنا رواد الحضارة؟ وكيف تغيرت تلك الطريقة؟ وكيف نستطيع إصلاحها؟
مع أن هذه أسئلة كبيرة جدًا، إلا أن معظمنا -للأسف- يتسرع في الإجابة ويقفز إلى الاستنتاجات (jumping to conclusions) وإذا جربت أنت بنفسك طرح هذه الأسئلة على الناس، سوف تسمع كثيرًا من الإجابات المتسرعة.
ولكن الفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري كان من الذين درسوا هذه التساؤلات بتأنٍ وعمق في رباعيته الشيقة (نقد العقل العربي).
وفي الجزء الأول منها: (تكوين العقل العربي) يدرس الجابري بطريقة بوليسية شيقة هذه القضية.
يرى الجابري أن العقل العربي الذي هو جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها لاكتساب المعرفة أو إنتاجها، ويرى الجابري أن الثقافة العربية هي الإطار المرجعي الرئيسي أو الوحيد للعقل العربي وأن الثقافة العربية بهذا المعنى تشكلت في ما يعرف بـ(عصر التدوين) هذه الفترة رسمت الوعي العربي لأن ما جاء بعدها لا يُفهم إلا بربطه بها؛ ولأن ما قبلها لم يُدوَّن إلا فيها، ويقول الجابري: (إن عصر التدوين حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له وفي كل ماضٍ آخر منظور إليه من داخل الثقافة العربية كما هو حاضر في مختلف أنواع «الغد» هو حاضر في كل ذلك بكل معطياته وصراعاته وتناقضاته).
يعتقد الجابري أن العقل العربي ابتدأ التكوين بتدوين اللغة ووضع قواعدها من نحو، وصرف.. إلخ، وكان (الإعرابي) ابن الصحراء هو المرجع الرئيسي.
والآليات الفكرية التي نتجت عن خلق هذا العلم علم اللغة، كانت هي الأساس والمنهج الذي سارت عليه باقي العلوم الأخرى، والتفكير يعتمد على اللغة، وهي تتحكم به بطريقتها ومفرداتها فاللغة هي القالب الذي يتشكل فيه وبه الفكر، وكل أمة تتكلم كما تفكر، وتفكر كما تتكلم، ويعتقد الجابري أن لغة المعاجم القائمة على خشونة الأعرابي ينقصها الكثير من المفاهيم الواردة في القرآن الكريم والحديث الشريف، والتي كانت رائجة في مجتمع مكة والمدينة خاصة الكلمات الحضارية.
فهل تسللت طريقة تفكير الإعرابي إلى العقل العربي؟
ثم تطورت العلوم الفقهية وما من مسلم كان يحسن القراءة بالعربية إلا وكان على اتصال مباشر بكتب الفقه وقد أبدع العرب في علم أصول الفقه، هذا العلم الذي ابتكره المسلمون وهو القواعد التي تستخدم لاستنباط الأحكام الشرعية، ومكانته بالنسبة للفقه مكانة المنطق من الفلسفة، وقد توسع هذا العلم كثيرًا فقد كان في عهد الرسول واستمر لفترة من بعده، يجيب على مسائل واقعية في حياة الناس، ثم تطور ليفترض المسائل، ويبحث عن إجاباتها، حتى أنه بحث في مسائل نادرة الحدوث جدًا، ومما لا شك فيه أن توسع هذا العلم كان له تأثير على العقل العربي ومثل علم اللغة قد يكون تسلل لطريقة تفكير وتكوين العقل العربي وأضفى عليه طابع التفكير الفقهي في كل شيء، حتى في الأمور العلمية والتكنولوجية؛ لذلك نجد أن أولوية تفكير العقل العربي محجوزة للفقه، فأول ما يفكر فيه العقل العربي تجاه اختراع ما هو: هل هو حلال أم حرام؟ وما شابه ذلك من التساؤلات الفقهية، ولا نجد العقل العربي قريبًا من التفكير في كيفية عمل ذلك الاختراع؟ فضلًا عن التفكير في إمكانية تطويره، ولم يكن التفكير بهذه الطريقة موجودًا في عصر النهضة الإسلامية؛ بدليل أن كثيرًا من الاختراعات لم تواجه عائقًا فقهيًّا، مثل: اختراع الكاميرا، والأسطرلاب، والصمامات، والصابون، وأقلام الحبر الجاف.. إلخ، أما بعد سطوة التفكير الفقهي على العقل العربي بشكل خاص والإسلامي بشكل عام فقد أدى إلى تحريم الكثير من الاختراعات على سبيل المثال تحريم آلة الطابعة إبان الحكم العثماني.
ولكن ليست هذه المشكلة الأكبر، ولا التسلل الأخطر فالعقل المستقيل حسب وصف الجابري قد خلقه الموروث الهرمسي، المجوسي العرفاني بالدرجة الأولى، ومن يتعقب هذا الموروث لا يجد تشابها فقط إنما تشابها هو أقرب للتطابق بين الاعتقادات (اللاعقلية) في تلك الحضارات، وبعض الاعتقادات في بعض المذاهب الإسلامية، التي نشأت في الجغرافيا نفسها، وقد تكون جذور فكر الإسلام السياسي أيضا نبتت من هذه الاعتقادات المتسللة للعقل العربي، وهذا مما سبب خروج العقل العربي من مداره السليم ليسبح في ظلمات بعيدة عن فلكه الطبيعي رغم أن الدين الإسلامي الحنيف يحث على التعقل بشكل كبير ابتداءً من القرآن الكريم الذي كرر ألفاظ الفكر، والتفكر، والنظر، والتبصر، والعلم والتدبر، والإدراك، مئات المرات ورفع من شأن العقل، بل وضع من لا يستخدم عقله في مرتبة دون الحيوان (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون).
وخلاصة رأي الجابري في مسألة تغيّر تفكير الأمة: أن طريقة تفكير الأمة تتغير بتغير الإطار الثقافي المرجعي وبتغير طريقة التفكير يتغير مسار حضارة الأمة، وهنا يلعب الإعلام والعلماء والمفكرون والمثقفون دورًا كبيرًا في خلق العقل الجمعي الذي يجل العلم، ويصنع الحضارة والتمدن والإبداع.
مع أن هذه أسئلة كبيرة جدًا، إلا أن معظمنا -للأسف- يتسرع في الإجابة ويقفز إلى الاستنتاجات (jumping to conclusions) وإذا جربت أنت بنفسك طرح هذه الأسئلة على الناس، سوف تسمع كثيرًا من الإجابات المتسرعة.
ولكن الفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري كان من الذين درسوا هذه التساؤلات بتأنٍ وعمق في رباعيته الشيقة (نقد العقل العربي).
وفي الجزء الأول منها: (تكوين العقل العربي) يدرس الجابري بطريقة بوليسية شيقة هذه القضية.
يرى الجابري أن العقل العربي الذي هو جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها لاكتساب المعرفة أو إنتاجها، ويرى الجابري أن الثقافة العربية هي الإطار المرجعي الرئيسي أو الوحيد للعقل العربي وأن الثقافة العربية بهذا المعنى تشكلت في ما يعرف بـ(عصر التدوين) هذه الفترة رسمت الوعي العربي لأن ما جاء بعدها لا يُفهم إلا بربطه بها؛ ولأن ما قبلها لم يُدوَّن إلا فيها، ويقول الجابري: (إن عصر التدوين حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له وفي كل ماضٍ آخر منظور إليه من داخل الثقافة العربية كما هو حاضر في مختلف أنواع «الغد» هو حاضر في كل ذلك بكل معطياته وصراعاته وتناقضاته).
يعتقد الجابري أن العقل العربي ابتدأ التكوين بتدوين اللغة ووضع قواعدها من نحو، وصرف.. إلخ، وكان (الإعرابي) ابن الصحراء هو المرجع الرئيسي.
والآليات الفكرية التي نتجت عن خلق هذا العلم علم اللغة، كانت هي الأساس والمنهج الذي سارت عليه باقي العلوم الأخرى، والتفكير يعتمد على اللغة، وهي تتحكم به بطريقتها ومفرداتها فاللغة هي القالب الذي يتشكل فيه وبه الفكر، وكل أمة تتكلم كما تفكر، وتفكر كما تتكلم، ويعتقد الجابري أن لغة المعاجم القائمة على خشونة الأعرابي ينقصها الكثير من المفاهيم الواردة في القرآن الكريم والحديث الشريف، والتي كانت رائجة في مجتمع مكة والمدينة خاصة الكلمات الحضارية.
فهل تسللت طريقة تفكير الإعرابي إلى العقل العربي؟
ثم تطورت العلوم الفقهية وما من مسلم كان يحسن القراءة بالعربية إلا وكان على اتصال مباشر بكتب الفقه وقد أبدع العرب في علم أصول الفقه، هذا العلم الذي ابتكره المسلمون وهو القواعد التي تستخدم لاستنباط الأحكام الشرعية، ومكانته بالنسبة للفقه مكانة المنطق من الفلسفة، وقد توسع هذا العلم كثيرًا فقد كان في عهد الرسول واستمر لفترة من بعده، يجيب على مسائل واقعية في حياة الناس، ثم تطور ليفترض المسائل، ويبحث عن إجاباتها، حتى أنه بحث في مسائل نادرة الحدوث جدًا، ومما لا شك فيه أن توسع هذا العلم كان له تأثير على العقل العربي ومثل علم اللغة قد يكون تسلل لطريقة تفكير وتكوين العقل العربي وأضفى عليه طابع التفكير الفقهي في كل شيء، حتى في الأمور العلمية والتكنولوجية؛ لذلك نجد أن أولوية تفكير العقل العربي محجوزة للفقه، فأول ما يفكر فيه العقل العربي تجاه اختراع ما هو: هل هو حلال أم حرام؟ وما شابه ذلك من التساؤلات الفقهية، ولا نجد العقل العربي قريبًا من التفكير في كيفية عمل ذلك الاختراع؟ فضلًا عن التفكير في إمكانية تطويره، ولم يكن التفكير بهذه الطريقة موجودًا في عصر النهضة الإسلامية؛ بدليل أن كثيرًا من الاختراعات لم تواجه عائقًا فقهيًّا، مثل: اختراع الكاميرا، والأسطرلاب، والصمامات، والصابون، وأقلام الحبر الجاف.. إلخ، أما بعد سطوة التفكير الفقهي على العقل العربي بشكل خاص والإسلامي بشكل عام فقد أدى إلى تحريم الكثير من الاختراعات على سبيل المثال تحريم آلة الطابعة إبان الحكم العثماني.
ولكن ليست هذه المشكلة الأكبر، ولا التسلل الأخطر فالعقل المستقيل حسب وصف الجابري قد خلقه الموروث الهرمسي، المجوسي العرفاني بالدرجة الأولى، ومن يتعقب هذا الموروث لا يجد تشابها فقط إنما تشابها هو أقرب للتطابق بين الاعتقادات (اللاعقلية) في تلك الحضارات، وبعض الاعتقادات في بعض المذاهب الإسلامية، التي نشأت في الجغرافيا نفسها، وقد تكون جذور فكر الإسلام السياسي أيضا نبتت من هذه الاعتقادات المتسللة للعقل العربي، وهذا مما سبب خروج العقل العربي من مداره السليم ليسبح في ظلمات بعيدة عن فلكه الطبيعي رغم أن الدين الإسلامي الحنيف يحث على التعقل بشكل كبير ابتداءً من القرآن الكريم الذي كرر ألفاظ الفكر، والتفكر، والنظر، والتبصر، والعلم والتدبر، والإدراك، مئات المرات ورفع من شأن العقل، بل وضع من لا يستخدم عقله في مرتبة دون الحيوان (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون).
وخلاصة رأي الجابري في مسألة تغيّر تفكير الأمة: أن طريقة تفكير الأمة تتغير بتغير الإطار الثقافي المرجعي وبتغير طريقة التفكير يتغير مسار حضارة الأمة، وهنا يلعب الإعلام والعلماء والمفكرون والمثقفون دورًا كبيرًا في خلق العقل الجمعي الذي يجل العلم، ويصنع الحضارة والتمدن والإبداع.