جدة: محمود تراوري

تتوارى نظرية الأنواع التي بدأها أرسطو في كتابه «فن الشعر»، وحاول فتحها على الأنواع الأدبية، تلك النظرية التي حظيت بالكثير من البحث في القرن السابق، لم تعد في دائرة الاهتمام لأسباب تتعلق بانسحاب الأدب ونظرياته، وكذلك بسبب هيمنة أشكال من التعبير الإنساني كالصورة والتقرير الصحفي والمادة التلفزيونية، وأشكال أخرى من التعبير الذي يعتمد على الصورة اعتمادا أساسيا، وكلها تشكل محتوى اليوم في منصات متعددة عبر شبكة الإنترنت.

كيف تشتبك الصورة مع الكلام

الصورة / المشهد عنصر أساسي ينبغي الانتباه له حين نبحث حدود الأنواع في هذا الزمان، وهو متعلق بمركزية الصورة في الفنون المعاصرة، بحيث تحولت المجتمعات المعاصرة إلى مجتمعات مشهد، بحسب تعبير المنظر الفرنسي الراحل غي ديبور، ولا يبدو بحث مفهوم الصورة ضمن نظرية الأنواع غريبا نائيا بعض الشيء عن أرضه التي يبحث فيها، لأن الصورة الآن جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية وفهمنا لما يدور في العالم من حولنا.

عصرنا هو عصر الصورة بامتياز، لا يماري أحد في ذلك، لكن كيف تشتبك الصورة مع الكلام والصوت والفضاء لكي تتجلى على عرش المعرفة، هذا ما ينبغي أن يسلط عليه الضوء. وهذا ما فعله فخري صالح، حين حرر مجموعة من الموضوعات لمقالات متفرقة لعدة كتاب جمعها كتاب (التجنيس وبلاغة الصورة). ناقشت هذه المقالات، (التجنيس وبلاغة السرد، التجنيس الإبداعي بين مختبر الذات والشرط الثقافي، حياة الصورة الفنية، الصورة بين الحقيقة والمجاز، تحولات النقد في زمن الصورة، الخطاب الشعري وسلطة الصورة، تشكيل الصورة في «كزهر اللوز أو أبعد» لمحمود درويش، الصورة الفنية الشعرية، دراسة تطبيقية في ديوان «زلة أخرى للحكمة» للشاعر جريس سماوي، تماهي الصورة بين المقدس والدنيوي، تخفي المجالات التقليدية في الفن المعاصر، مصداقية الصورة في المشهد السينمائي).

علم القراءة الأدبية

في ظل انسحاب التيار البنيوي، بتلاوينه المختلفة، من منصة النقد الأدبي في العالم، وحلول النقد والدراسات الثقافية محل تلك الدراسات التي كانت تعنى بالنص بوصفه مستودع المعنى ومدار القراءة التي لا ترى شيئا خارجه، أصبح مفهوم النوع مهملا لصالح قراءة ثقافية ترى في كل الأفعال النصية وغير النصية محط اهتمامها، بل واقعة في دائرة اشتغالها.

من هنا تبدو الدراسات التي تسلط ضوءًا غامرًا على العولمة، وما بعد الحداثة، والسرديات بوصفها علما يضم في طياته معارف تنتسب إلى الرواية والتاريخ وأشكال تقديم المعرفة السياسية في بعض وجوهها، الأكثر انتشارا في المجلات الأكاديمية، وهي على رأس قوائم النشر في كبريات دور النشر في العالم. وهو أمر يعكس انتقال الدراسات الأدبية للتركيز على ما كانت البنيويات، على مدار العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، تنأى بنفسها عنه وتعده شيئا غير ذي بال في «علم» القراءة الأدبية.

استيعاب وإنتاج إبداعات جديدة

تبحث موضوعات الكتاب بشكل عام (إشكالية التجنيس)، أي تداخل الأجناس الأدبية والفنية، وما حدث بينها من تأثر وتأثير، وولادة أشكال إبداعية هجينة وأحيانًا أصيلة مترافقة مع هذه الثورة الشاملة.

في العصر الحديث حيث ثورة المواصلات والمرئيات والاتصالات والمواصلات، وقبلهما ثورة الطباعة ثم الثورة الصناعية، حيث أتيح لمناطق نائية من العالم التعرف على إبداعات أدبية وفنية لم يكن من السهل الوصول إليها ذاتيًا، إلا ربما بعد قرون عديدة، كفن الرواية أو المسرح أو السيمفوني.

برهن أدباء فنانو العالم على قدراتهم في استيعاب وإنتاج إبداعات جديدة، لا مثيل لها في تاريخ بلادهم الثقافي والفني.. ذلك أنهم أكثر عرضة لتلقي تأثيرات الأجناس الأدبية والفنية الأخرى على إبداعهم الخاص، وبالتالي تجلى ذلك على إنتاجهم نفسه سواء كان رواية أو قصيدة، أو يأخذ شكلا إبداعيًا جديدًا لم يتم التوافق على اسم له فيقال «نص» أو «كتابة».. إلخ.

مصداقية المشهد

في المشهدية السينمائية يتعرض الكتاب للمشهد الأخير في فيلم المخرج عاطف الطيب «ليلة ساخنة» الذي تدور أحداثه ليلة رأس السنة، فنری سید، سائق التكسي (نور الشريف) يطارد الوقت على أمل أن يتمكن من جمع تكاليف العملية الجراحية للمرأة التي ترقد في المستشفى ويعتبرها بمثابة أمه، وأثناء ذلك يلتقي بحورية (لبلبة) تقوم بمطاردة أشخاص استدرجوها للترفيه عنهم في سهرة رأس السنة، ثم سرق أحدهم المال الذي حصلت عليه وطردها. ثم يلتقي سيد وحورية أثناء ركوبهما التكسي برجل مريب (سيد زيان) يكتشفان بعد أن يقلاه معهما أنه مطارد أيضًا من قبل أشخاص مجهولين وتحدث المواجهة في الطريق بين الرجل المطارد ومطارديه، وهم من المتاجرين بالعمال المهاجرين، تنتهي بقتل الرجل المطارد تاركا في التكسي حقيبة فيها مليون جنيه. وبعد جدل مع حورية يقرر سيد تسليم حقيبة المال على أمل أن يحصلا بذلك على مكافأة من الشرطة، غير أن الشرطة تعتقل سيد وتحوله إلى متهم بجريمة القتل، فيضطر سيد أن يدوس على مبادئه وأن ينتزع شعلة الطيبة من داخله عندما يدعو حورية بالإيحاء لأن تتكتم على حقيبة المال أثناء خروجه من مركز الأمن بمعية رجال الشرطة، فتحتضن حورية حقيبة المال ودموع المرارة تنهمر من عينيها بحسرة ولوعة، في صورة لخصت فحوى الفيلم ذلك أن أهمية هذا العرض لا تتعلق بتفاصيله بل بإيحاءات مشهد انهيار الدموع من عيني حورية (لبلبة)، فهنا تكمن فكرة الفيلم التي أرادها عاطف الطيب، ومفادها أن ثمة طبقة اجتماعية أصلية انهارت في ظل عدم الثقة والإيقاع السريع للأحداث الذي بات يدوس على كل ما هو أصيل وجميل، المخرج لم يكشف عن فكرته بالكلام والوقائع، بل بالإحساس الذي بثته الصورة والذي وصل بالتأكيد لعدد لا بأس به من المشاهدين.

التقاط ومعايشة الأحاسيس المراد إيصالها عبر المشاهد المشار إليها أعلاه والتفاعل معها تم بناء على مصداقيتها، وخاصة تلك المشاهد التي تشكل ذروة الحدث، ففيها الفكرة، والعبرة، والرسالة التي قد يكون الفيلم لم يعلن عنها صراحة ولكنها وصلت مشاهدة أو معايشة من نوع ما ،قائمة على المصداقية بالدرجة الأولى.

على المشهد السينمائي أن يحتفظ بمصداقيته حتى لو كانت تفاصيله ضربًا من العبث، ونوعًا من التهريج، وشطحات خيال لا تمت للواقع بصلة.

فخري صالح نواهضة

* باحث وكاتب أردني.

* ولد في مدينة اليامون وتحديدا في جنين عام 1957.

* حصل على بكالوريوس أدب إنجليزي وفلسفة من الجامعة الأردنية عام 1989.

*شارك في محتويات الكتاب:

نزيه أبو نضال ، حسين جمعة، محمد عبد الله القواسمة،عباس عبدالحليم عباس، عالية الصالح، حسين نشوان،عبدالله رضوان، ريما مقطش، عواد علي، طلال معلا، محمد العامري، محمد أبو رزيق، خالد الحمزة، أحمد طملية.