يزداد عنف المتنمر مع وجود الخوف عند الطرف الآخر، وهذا قد يكون ابن أقلية اجتماعية أو دينية، أو رجلاً متورطًا يخاف على سمعته، أو ولدًا مهذبًا تربى على الابتعاد عن المشكلات.
وهـنـا نتوقف عند التنمر بوصفه سلوكًا عامًا أكثر مما هو مواصفات شخصية لبطل العالم السفلي، فهناك متنمرون من دون سلطة مرئية، والقوة الوحيدة التي يستمدونها هي من ضعف الطرف الآخر، ولذلك نجد متنمرين في الحياة العامة وفي الوظائف والمدارس وبين الأولاد الصغار.
وبالانتباه إلى رواية «دميان»، لهيرمن هسه، نرى أنها بشكل ما رواية عن السلبطة، ففيها ولد يتصاغر أمام ولد آخر متسلبط، يسيره ويجبره على سرقة أشياء من بيته ليجلبها له حتى يصل به الأمر إلى أن يطلب منه جلب أخته ليتسلى معها المتسليط.
وهـذا يوسع دائرة المتنمرين والمتسليطين لتشمل مناحي عديدة من الحياة لم يكـن يـنتـبـه إلـيها، فيركز تيم فيلد في كتاب «رؤية البولي من الداخل» عـلى تفشي ظاهرة الشبان (مع البنات أحيانًا، ولكن ليس البنات وحدهن) الذيـن يحتلون مكانًا ما من الحي أو الشارع ويسيطرون على الحياة فيه، ويصبح أي عابر تحت رحمة نزواتهم، هذا ما يسميه فيفل تجمع «تيدي» في كتابه (مثيرو المشكلات)، وهؤلاء يظهرون وينمون في غياب رقابة الأهل والدولة معًا.
ولكـن هناك نوعين آخرين من التسليط أو التنمر أكثر انتشارًا وتعميمًا، وهما التنمر الوظيفي والتسلبط العائلي، فقد يسيطر شخص على آخر بقوته العضلية أو بقوة السلاح، وقد يتحكم به بفعل القوانين السائدة، بعضها متفق عليه وهو التسلبط العائلي أو العشائري، وبعضها الآخر مكتوب، وهو ما يعرف بالتسليط الوظيفي.
وهذان النوعان يكتسبان قداسة من خلال استمراريتهما وارتباطهما بقيم محددة، فالتسليط العائلي مرتبط بقداسة الأبوين وطاعة الصغير لكبير وشرف العائلة المشترك ومصلحتها المشتركة، وهي أيضا قيم متوارثة.
في كتاب «المتنمر تحت النظر» لتيم فيلد (وهو كتاب مخصص للتسليط الوظيفي) نظرة شمولية أولية تتضمن التسليط العائلي، وقد أورد هذا الوصف لامرأة كانت مقموعة مع أهلها ثم تحولت إلى امرأة مسيطرة: «ولسوء الحظ فـإن هذه الصفة ستتجذر في أعماقها وستجعلها مسيطرة بالطريقة ذاتها التي عليها والداها الآن؛ خاصة حين يكون حولها أناس ضعفاء، كالأطفال مثلاً، أن الأذى ذاته قد لحق بوالديها من قبلها، إن عليهما أن يسيطرا الآن بسبب الطريقة التي سيطر بها أهلهما عليهما، وتلك هي الوسيلة التي يمر من خلالها العنف النفسي (السيكولوجي) من جيل إلى آخر».
ويقـول تيم فيلد إن الأمر يبدأ منذ الطفولة: «ونحن أطفال لم نتعلم، و لم يعلمنا أحد، كيف نقيم أنفسنا وعملنا على النحو المنطقي والدقيق، وهذا المركـب يــؤدي بالكثيرين إلى الاعتقاد بأن آراء الآخرين أكثر أهمية من آرائنا، وفي حين لا يبدو هذا معيقًا في الحياة اليومية، إلا أنه يصبح أمرًا خطيرًا عند ظهور السليطة».
وبدراسـة العلاقـة التـنمرية في الوظيفة نجد أنها تكشف عن مرض في المتنمر، وإصابة، نفسية في كثير من الأحيان، عند الضحية، «ولقد كانت الإنسانية طوال عمرها تعاني من التنمر، وحتى وقت قريب كان المجتمع يتقبل هذا الوضع بصمت».
وكذلك فإن السلوك التسليطي يتجلى في البيت وفي العلاقات.. في كل مكان يوجد فيه إنسانان أو أكثر على تماس، وحتى في السجون بين المساجين.
ومع أن الجزئيات والنتائج قد تختلف إلا أن الأسباب الضمنية هي: أغلب الأحيان، الرغبة في السيطرة والإخضاع والقضاء على الآخر، مصحوب بانعدام الحساسية تجاه حقوق الآخرين وحاجاتهم، ويضاف إلى ذلك إنكار المسؤولية عن النتائج المترتبة على السلوك المتعمد.
ويتلخص الوضع في مسيطر، بغير حق، يفرض سيطرته اليومية مصحوبة بعنف وقمع نفسي أو تربوي أو وظيفي أو اقتصادي أو جسدي، ويصبح الضحية مضطرا للعيش وهو يداري لكي لا يثير عليه غضب المتسلط، إنه يتحاشـى كـل ما يزعج هذا الأخير وفي الوقت ذاته يبحث عما يرضيه أو يدخل إلى نفسه السرور، (أليس هذا في النهاية هو وضع المرأة في مجتمعاتنا)؟.
التنمر (الذي سميته السلبطة)، إذا، ليس فقط في العالم السفلي الغائب عن العين المراقبة، بل هو كل سلوك «غائب عن العين المراقبة»، هو أمر يحدث في البيت ومكان العمل والمدرسة أيضا، هو وجود متسلط يفرض إرهابه النفسي على الآخرين من خلال الوضع الوظيفي أو العائلي أو الديني أو الاجتماعي، أمـا التسليط الوظيفي فيتم تحت ضغط القوانين وطرق فهمها وتطبيقها، «وأكـثـر هـذه التنمرات (أو التسلبطات) خطورة واستتارًا هو التسليط الوظيفي، ففي ساحات اللعب، وفي الشوارع المعتمة وفي المناطق المهجورة وسـاحات القـتال يـكـون الأذى الذي يوقعه المتسلبطون ماديًا في معظم الحـالات، أما في مناطق العمل المنضبطة فإن الأذى يصبح: نفسيًا (من خلال النقد والتقليل من الأهمية)، حيث لا يبدو الأذى للعين المجردة، لا يبدو.. إلا حين يعرف المرء كيف يلتقط الدلائل ويفسرها».
2000*
* أديب ومترجم سوري «1941 - 2004».
وهـنـا نتوقف عند التنمر بوصفه سلوكًا عامًا أكثر مما هو مواصفات شخصية لبطل العالم السفلي، فهناك متنمرون من دون سلطة مرئية، والقوة الوحيدة التي يستمدونها هي من ضعف الطرف الآخر، ولذلك نجد متنمرين في الحياة العامة وفي الوظائف والمدارس وبين الأولاد الصغار.
وبالانتباه إلى رواية «دميان»، لهيرمن هسه، نرى أنها بشكل ما رواية عن السلبطة، ففيها ولد يتصاغر أمام ولد آخر متسلبط، يسيره ويجبره على سرقة أشياء من بيته ليجلبها له حتى يصل به الأمر إلى أن يطلب منه جلب أخته ليتسلى معها المتسليط.
وهـذا يوسع دائرة المتنمرين والمتسليطين لتشمل مناحي عديدة من الحياة لم يكـن يـنتـبـه إلـيها، فيركز تيم فيلد في كتاب «رؤية البولي من الداخل» عـلى تفشي ظاهرة الشبان (مع البنات أحيانًا، ولكن ليس البنات وحدهن) الذيـن يحتلون مكانًا ما من الحي أو الشارع ويسيطرون على الحياة فيه، ويصبح أي عابر تحت رحمة نزواتهم، هذا ما يسميه فيفل تجمع «تيدي» في كتابه (مثيرو المشكلات)، وهؤلاء يظهرون وينمون في غياب رقابة الأهل والدولة معًا.
ولكـن هناك نوعين آخرين من التسليط أو التنمر أكثر انتشارًا وتعميمًا، وهما التنمر الوظيفي والتسلبط العائلي، فقد يسيطر شخص على آخر بقوته العضلية أو بقوة السلاح، وقد يتحكم به بفعل القوانين السائدة، بعضها متفق عليه وهو التسلبط العائلي أو العشائري، وبعضها الآخر مكتوب، وهو ما يعرف بالتسليط الوظيفي.
وهذان النوعان يكتسبان قداسة من خلال استمراريتهما وارتباطهما بقيم محددة، فالتسليط العائلي مرتبط بقداسة الأبوين وطاعة الصغير لكبير وشرف العائلة المشترك ومصلحتها المشتركة، وهي أيضا قيم متوارثة.
في كتاب «المتنمر تحت النظر» لتيم فيلد (وهو كتاب مخصص للتسليط الوظيفي) نظرة شمولية أولية تتضمن التسليط العائلي، وقد أورد هذا الوصف لامرأة كانت مقموعة مع أهلها ثم تحولت إلى امرأة مسيطرة: «ولسوء الحظ فـإن هذه الصفة ستتجذر في أعماقها وستجعلها مسيطرة بالطريقة ذاتها التي عليها والداها الآن؛ خاصة حين يكون حولها أناس ضعفاء، كالأطفال مثلاً، أن الأذى ذاته قد لحق بوالديها من قبلها، إن عليهما أن يسيطرا الآن بسبب الطريقة التي سيطر بها أهلهما عليهما، وتلك هي الوسيلة التي يمر من خلالها العنف النفسي (السيكولوجي) من جيل إلى آخر».
ويقـول تيم فيلد إن الأمر يبدأ منذ الطفولة: «ونحن أطفال لم نتعلم، و لم يعلمنا أحد، كيف نقيم أنفسنا وعملنا على النحو المنطقي والدقيق، وهذا المركـب يــؤدي بالكثيرين إلى الاعتقاد بأن آراء الآخرين أكثر أهمية من آرائنا، وفي حين لا يبدو هذا معيقًا في الحياة اليومية، إلا أنه يصبح أمرًا خطيرًا عند ظهور السليطة».
وبدراسـة العلاقـة التـنمرية في الوظيفة نجد أنها تكشف عن مرض في المتنمر، وإصابة، نفسية في كثير من الأحيان، عند الضحية، «ولقد كانت الإنسانية طوال عمرها تعاني من التنمر، وحتى وقت قريب كان المجتمع يتقبل هذا الوضع بصمت».
وكذلك فإن السلوك التسليطي يتجلى في البيت وفي العلاقات.. في كل مكان يوجد فيه إنسانان أو أكثر على تماس، وحتى في السجون بين المساجين.
ومع أن الجزئيات والنتائج قد تختلف إلا أن الأسباب الضمنية هي: أغلب الأحيان، الرغبة في السيطرة والإخضاع والقضاء على الآخر، مصحوب بانعدام الحساسية تجاه حقوق الآخرين وحاجاتهم، ويضاف إلى ذلك إنكار المسؤولية عن النتائج المترتبة على السلوك المتعمد.
ويتلخص الوضع في مسيطر، بغير حق، يفرض سيطرته اليومية مصحوبة بعنف وقمع نفسي أو تربوي أو وظيفي أو اقتصادي أو جسدي، ويصبح الضحية مضطرا للعيش وهو يداري لكي لا يثير عليه غضب المتسلط، إنه يتحاشـى كـل ما يزعج هذا الأخير وفي الوقت ذاته يبحث عما يرضيه أو يدخل إلى نفسه السرور، (أليس هذا في النهاية هو وضع المرأة في مجتمعاتنا)؟.
التنمر (الذي سميته السلبطة)، إذا، ليس فقط في العالم السفلي الغائب عن العين المراقبة، بل هو كل سلوك «غائب عن العين المراقبة»، هو أمر يحدث في البيت ومكان العمل والمدرسة أيضا، هو وجود متسلط يفرض إرهابه النفسي على الآخرين من خلال الوضع الوظيفي أو العائلي أو الديني أو الاجتماعي، أمـا التسليط الوظيفي فيتم تحت ضغط القوانين وطرق فهمها وتطبيقها، «وأكـثـر هـذه التنمرات (أو التسلبطات) خطورة واستتارًا هو التسليط الوظيفي، ففي ساحات اللعب، وفي الشوارع المعتمة وفي المناطق المهجورة وسـاحات القـتال يـكـون الأذى الذي يوقعه المتسلبطون ماديًا في معظم الحـالات، أما في مناطق العمل المنضبطة فإن الأذى يصبح: نفسيًا (من خلال النقد والتقليل من الأهمية)، حيث لا يبدو الأذى للعين المجردة، لا يبدو.. إلا حين يعرف المرء كيف يلتقط الدلائل ويفسرها».
2000*
* أديب ومترجم سوري «1941 - 2004».