الثابت أن الرواد العرب الذين اعتقدوا أن رفع شعار القومية العربية، كفيل بتوحيد الأمة، كانوا يقرؤون تاريخ غرب أوروبا قراءة مقلوبة رأسًا على عقب. وكانوا قد أغفلـوا نتائج الثورة الصناعية وحركة الاستيطان معًا، وأغفلوا الآثار العميقة التي ترتبت على ظهور طبقتي العمال وأصحاب العمل، وذهبـوا وراء فكرة مؤداها، أن كل ما تحتاجه الأمم لكي تحقق وحدتها، هو أن «تتذكر» لغتها الواحدة، وتراثها الواحـد. تلك النظرية المستحيلة التي صاغها ميشيل عفلق صراحة بقوله: «القومية لیست علمًا»، أو كما قال الأفغاني قبل ذلك، مقترحًا حل جميع المشاكل القائمة بين العرب والأتراك، بحيلة لغوية بحتة: «لقد أهمل الأتراك أمرًا عظيمًا، وهو اتخاذ اللسان لسانًا للدولة. ولو أن الدولة العثمانية اتخذت اللسان العربي لسانًا رسميًا، وسعت لتعريب الأتراك، لانتفت بين الأمتين النعرة القومية، وزال داعي النفور والانقسام، وصاروا أمة عربية بكل ما في اللسان من معنى...».
في مثيل هذا المنهج الشعري، كانت الدعوة إلى الدولة القومية مجرد نوع من التبشير القائم على أسلوب الإعلان التجاري. وكان الرواد يبذلون جهدًا مضنيًا لتسويق هذه الدعوة بالأقوال البليغة وحدها:
- فالأفغاني يقول: «لا سعادة إلا بالجنسية، ولا جنسية إلا باللغة..».
-- وفي مكان آخر: «إن الرابطة الجنسية والرابطة الدينية، أهم الروابط التي تلحم الأفراد، وتكون الأمم..».
وفي رأي السيد ميشيل عفلق: «القومية العربية هي خلق دائم..».
- وفي صياغة مشـوشـة أخـرى: «القومية هي مصدر الفكر والعقيدة القومية..».
وفي مكان آخر: «النظرية القومية هي التعبير المتطور عن الفكرة العربية الخالدة..».
- وبكلمة أكثر التزامًا بروح الشعر: «إن القومية العربية ليست نظـرية، ولكنهـا مبعث النظريات. ولا هي وليدة الفكـر، بل مرضعته. وليست مستعبدة الفن، بل نبعه وروحه..».
والمشكلة الظاهرة في هذا المنهج، أنه في الواقع مجرد كلام طيب من أناس طيبين. فلو شاء أحد ما أن يستبدل شعار القومية في أقـوال الـرواد، بـأي شعـار آخـر مـثـل الإســلام ـ أو حتى الشيوعية ـ لما تغير جوهر الدعوة إلى الوحدة، ولما بدت نظـرية القومية العربية في منزلة الرباط الوحيد أصـلا.
والواقـع أن الإخوان المسلمين سوف يستعيرون هذا المنهج الوصفي نفسه، في الدعوة لفكرة مختلفة جدًا. وسوف يشهد عصر عبدالناصر، معركة إعلامية ساخنة بين شعار الدولة القومية وبين شعار الدولة الإسلامية الذي رفعه سيد قطب في لوحته الإعلانية المشهورة (خذوا الإسلام جملة أو دعوة).
لقد تورط هذا الداعية في الغلطة القديمة نفسها، وبنى منهجه على الدعوة إلى تغيير أفكار المجتمع المصري، بسلاح الخطب والمواعظ، متجـاهـلا بـدوره ارتبـاط التغيير، بظهـور أنمـاط اقتصادية لا تتوفر في مجتمعه الزراعي أساسًا. وفي هذه المرة أيضًا، ساد أسلوب التبشير القائم على تقنية الإعلان التجاري، وأظهر سيد قطب العائد لتوه من الولايات المتحدة، ميلا متوقعًا للاستفادة من تقنية الإعلان في صيغ مثيرة مثل قوله:
«في الإسلام وحده يتحرر الناس من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع له وحده.. وهذا هو الجديد كل الجدة الذي نملكه ولا تعرفه البشرية».
- وفي مكان آخر: «إن الشعب نفسه، لا يملك حكم نفسـه، لأن الله هو الذي خلق الشعوب، وهو الذي يحكمها بنفسه». و«الإسلام ليس نحلـة قوم، ولا نظـام وطن، ولكنه منهج إله ونظام عالم..».
إن هذا المنهج التبشيري المسطح، هو القاعدة التي جمعت دعـاة الوحدة القومية، ودعاة الوحدة الإسلامية، في زقاق مسدود واحد، رغم الاختلاف الظاهـر في صياغة الدعـوتين. فالزعم بأن تغيير المجتمع، رهن بتغيير أفكاره، نظرية فقهية ثبت بطلانها منذ عصر ماركس على الأقل. ولم يكن بوسعها أن تقدم للعرب حلا آخر، سوى أن تربطهم إلى عالم ما قبل الثورة الصناعية، وتورطهم في دعوات عقائدية متطرفة، على يد جيل بعد جيل من الأنبيـاء الجدد ولعل التاريـخ لا يـزال يخبئ للـعـرب أكثر من مفاجأة غير سارة.
1990*
* كاتب ليبي «1937 - 1994»
في مثيل هذا المنهج الشعري، كانت الدعوة إلى الدولة القومية مجرد نوع من التبشير القائم على أسلوب الإعلان التجاري. وكان الرواد يبذلون جهدًا مضنيًا لتسويق هذه الدعوة بالأقوال البليغة وحدها:
- فالأفغاني يقول: «لا سعادة إلا بالجنسية، ولا جنسية إلا باللغة..».
-- وفي مكان آخر: «إن الرابطة الجنسية والرابطة الدينية، أهم الروابط التي تلحم الأفراد، وتكون الأمم..».
وفي رأي السيد ميشيل عفلق: «القومية العربية هي خلق دائم..».
- وفي صياغة مشـوشـة أخـرى: «القومية هي مصدر الفكر والعقيدة القومية..».
وفي مكان آخر: «النظرية القومية هي التعبير المتطور عن الفكرة العربية الخالدة..».
- وبكلمة أكثر التزامًا بروح الشعر: «إن القومية العربية ليست نظـرية، ولكنهـا مبعث النظريات. ولا هي وليدة الفكـر، بل مرضعته. وليست مستعبدة الفن، بل نبعه وروحه..».
والمشكلة الظاهرة في هذا المنهج، أنه في الواقع مجرد كلام طيب من أناس طيبين. فلو شاء أحد ما أن يستبدل شعار القومية في أقـوال الـرواد، بـأي شعـار آخـر مـثـل الإســلام ـ أو حتى الشيوعية ـ لما تغير جوهر الدعوة إلى الوحدة، ولما بدت نظـرية القومية العربية في منزلة الرباط الوحيد أصـلا.
والواقـع أن الإخوان المسلمين سوف يستعيرون هذا المنهج الوصفي نفسه، في الدعوة لفكرة مختلفة جدًا. وسوف يشهد عصر عبدالناصر، معركة إعلامية ساخنة بين شعار الدولة القومية وبين شعار الدولة الإسلامية الذي رفعه سيد قطب في لوحته الإعلانية المشهورة (خذوا الإسلام جملة أو دعوة).
لقد تورط هذا الداعية في الغلطة القديمة نفسها، وبنى منهجه على الدعوة إلى تغيير أفكار المجتمع المصري، بسلاح الخطب والمواعظ، متجـاهـلا بـدوره ارتبـاط التغيير، بظهـور أنمـاط اقتصادية لا تتوفر في مجتمعه الزراعي أساسًا. وفي هذه المرة أيضًا، ساد أسلوب التبشير القائم على تقنية الإعلان التجاري، وأظهر سيد قطب العائد لتوه من الولايات المتحدة، ميلا متوقعًا للاستفادة من تقنية الإعلان في صيغ مثيرة مثل قوله:
«في الإسلام وحده يتحرر الناس من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع له وحده.. وهذا هو الجديد كل الجدة الذي نملكه ولا تعرفه البشرية».
- وفي مكان آخر: «إن الشعب نفسه، لا يملك حكم نفسـه، لأن الله هو الذي خلق الشعوب، وهو الذي يحكمها بنفسه». و«الإسلام ليس نحلـة قوم، ولا نظـام وطن، ولكنه منهج إله ونظام عالم..».
إن هذا المنهج التبشيري المسطح، هو القاعدة التي جمعت دعـاة الوحدة القومية، ودعاة الوحدة الإسلامية، في زقاق مسدود واحد، رغم الاختلاف الظاهـر في صياغة الدعـوتين. فالزعم بأن تغيير المجتمع، رهن بتغيير أفكاره، نظرية فقهية ثبت بطلانها منذ عصر ماركس على الأقل. ولم يكن بوسعها أن تقدم للعرب حلا آخر، سوى أن تربطهم إلى عالم ما قبل الثورة الصناعية، وتورطهم في دعوات عقائدية متطرفة، على يد جيل بعد جيل من الأنبيـاء الجدد ولعل التاريـخ لا يـزال يخبئ للـعـرب أكثر من مفاجأة غير سارة.
1990*
* كاتب ليبي «1937 - 1994»