ينبغي لنا، قبل أن نأخذ بالحديث عن القصة العربية خلال التاريخ، أن ننبه إلى أمر ذي شأن. نعني بالقصة في مثل هذا البحث، مفهومـاً غير مفهـومها الحديث، الذي نشأ نشوء النهضة الصناعية الأوروبية، ونشوء الطباعـة الآلية وتطور الصحافة، فإن هذا المفهوم الحديث قد وضع للقصة قواعد ورسم لها أساليب خاصة، وجعل لها تركيباً معيناً تتحرك خلاله الأشخاص وتنمو الحـوادث، وتترابط العناصر القصصية على خطة مقصودة، وتدبير محكم من خارج حياة القصة نفسها، أي بقصد من القاص وتدبيره ووعيه.
نضيف إلى هذا كله أن القصة الحديثة أصبحت تعبر عن تاريخ جديد للإنسان، يختلف كل الاختلاف عن تاريخ الإنسان في العصور القديمة والوسيطة، أي قبل أن تتحول العلاقات البشرية إلى طابعها الجديد الناشيء عن ظهـور الصناعـة الآلية، منذ بداءة العصر الذي جرى الاصطلاح على تسميته بعصر الإحياء، فإن مفهـوم القصـة الحديث، القائم على هذه الأسس الجـديـدة بعـد عصر الإحياء، إذا أخذناه مقياساً للبحث في القصة القديمة، انفتحت ثغرات واسعة جـداً للشك في قيمة التراث القصصي، الذي خلفته الأمم والشعوب غير العربية، التي لا يشك أحد من الباحثين أنها ذوات تراث غني في هذا الباب، مع أن تراثها هذا لا يخضع لهذه القواعد والمفاهيم، التي وضعها النقد الحديث، ووضعتها المذاهب المستجدة للقصة في العصور الأخيرة.
وإذا أبعدنا النظر إلى قصص الهند والفرس واليونان والرومان مثلاً، هذه الأمم أو الشعوب التي لا يختلف الباحثون بأنها كانت على غنى وافر بالثروة القصصية، فإننا لا نجد الفرق بين قصصها وقصص العرب في التاريخ، فرقاً عظيماً يصح أن يحمل عدداً من الباحثين على نكران القصة العربية، أو التقليل من شأنها كما نعلم.
فهذه الإلياذة وهي أشهر آثار اليونان في القصص، صحيح أنها كانت تنتسب إلى هـوميـروس، ولكن الذي عليه العلماء أنها ترجع إلى أصـل تـاريخي سابق لعهـد هوميروس، أعني حصار طروادة، وأن الشعب اليوناني كان يتداول القصة قبل عهـد هذا الشاعـر بـأجـيـال طـوال، وأنها كـانـت تنمو وتتسع بتـوالي الأجيال على ألسنة القصاصين من الشعب، حتى جاء هوميروس فنظمهـا ودونها وأتم فصولها فنسبت إليه، وهي بجملتها انعكاسات لحياة أجيال من الشعب الإغريقي، بما في هذه الحياة من أوضاع واقعية ومن خرافات، وعقائد وحوادث ذات دلالات واقعية أيضاً، ولكن من وراء الأساطير والخرافات.
وما قصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، وقصة سيف بن ذي يزن، والسيـرة الهلالية مثلاً، إلا قصص شعبية تداولتها الأجيال العربية كما حدث في الإلياذة، غير أن القصص العربية هذه لم ينتسب بعضها أو أكثرها إلى مؤلف كهوميروس، أو لم يتفق المؤرخون على نسبتها إلى مؤلف بعينه؟. هذا فضلاً عن التشابه الملحوظ بين الإلياذة وقصة عنترة في عدة جوانب. وإذا كان هناك اختلاف بين الإلياذة وسيرة عنترة مثلا في الطابع الفني، فذلك مصدره أن الإلياذة كان لها حظ هذه العناية من شاعر عظيم في شعب اليونان، أضفى عليها هذا الطابع الذي رفعها في تاريخ الآداب العالمية، ولم تصب سيرة عنترة، أو سيرة بني هلال مثلاً شيئاً من هذا، بل بقيت إلى أيدي القصاصين البسطاء، يقصونها بلهجاتهم وأساليبهم البسيطة على الشعب، جيلا بعد جيل.
ولعل سبباً من الأسباب التي كانت تباعد بين طبقات العامة في الشعب، وكبـار أدباء العرب في معظم الأجيال العربية، قد حرم هذا التراث من القصص الشعبي، أن ينال مكانته الجدير بها في تاريخ الأدب العربي.
ولعل هذا السبب نفسه هو الذي حمل الباحثين المحدثين، العرب بخاصة، أن يتهـمـوا تـاريخنـا الأدبي بالجـدب في باب القصص، لأنهم لم ينظروا إلى مثـل هـذه الأقاصيص الشعبية الغنية الحية، نظرة اهتمام وتقدير، إذ حصروا نظرهم إليها في وجهة كونها تمثل لغة العامة وأسلوبها وتفكيرها، وانصرفوا عن كل دلالالتها الأخـر، من حيث إنها انعكاسات واقعية لأجيال من تاريخ الشعب الذي يتناقلهـا ويضيف إليها، معبرا عن مخزون ثقافاته ومشاعره وأشواقه وأوضاع حياته في كل جيل.
ومن هنا نشأ تقليـد متبع عند الذين يـدرسـون القصـة العـربـيـة القـديمة، أو يتحدثون عنها، فأخذوا لا ينظرون للمسألة إلا من جانب القصص التي تهتم بها الخاصة، ويهملون أو يتجاهلون القصص التي تتداولها العامة، فإذا هم لا يرون إلا تراثاً قليل الكم لا يؤلف «إلياذة» عربية، أو «أوذيسة» أو «شاهنامة»!..
على أن علماء الاستشراق كانوا يولون هذا القصص الشعبي، عناية واهتمامـا ظاهرين، فقد وضعوا العديد من المؤلفات والأبحاث الخاصة بهذا النوع من تراثنا القصصي، فنحن نقرأ لمثل «بارت» في دائرة المعارف الإسلامية، قوله عن قصة سيف بن ذي يزن مثلا «إن هذه القصة تعطينا صـورة صادقة عن عقلية الشعب المسلم في مصر أواخر القرون المظلمة، وتؤلف ـ في الوقت نفسه ـ مصدراً قيماً لتاريخ الإسلام بمعناه الصحيح». ومهما يكن القصد من هذا القول فإنـه ـ على أي حـال ـ دليل على تنبه هؤلاء النفر من الباحثين إلى القيمة الاجتماعية، التي يحتويها قصصنا الشعبي
ومن عجب أن عدداً كثيراً من الذين درسوا قضيـة القصـة في الأدب العربي، حين قصروا نظرهم على القصص التي تهتم بها الخاصة، أي تلك التي تتسم بطابع النثر الفني، أو التي تدخل في نطاق الشعر الكلاسيكي، فرأوا قلة هذه القصص بالقياس إلى سائر أنواع الأدب العربي، أخذوا يؤولون الأمر على غير وجه الواقع التاريخي، ويذهبون في ذلك مذاهب مختلفة أهون شأنها أنها لا تثبت للنقد العلمي، لأنها تفرض على الشعب العربي أحكاماً لا سند لها مطلقاً في الحقائق العلمية، كأمثال قولهم أن العرب لم ينشئوا القصص الكبيرة والملاحم، لضعف في قدرة الخيال العربي على الابتداع والتحليق، وكقول زكي مبارك «إن العرب بفطرتهم لم يكونوا يميلون إلى القصص المعقـد، الذي وجد كثير منه فيها أثر عن اليونان القدماء، والذي ذاع عند الإنجليز والروس والفرنسيس والألمان».
1956*
* باحث أكاديمي وناقد لبناني «1910 - 1987».
نضيف إلى هذا كله أن القصة الحديثة أصبحت تعبر عن تاريخ جديد للإنسان، يختلف كل الاختلاف عن تاريخ الإنسان في العصور القديمة والوسيطة، أي قبل أن تتحول العلاقات البشرية إلى طابعها الجديد الناشيء عن ظهـور الصناعـة الآلية، منذ بداءة العصر الذي جرى الاصطلاح على تسميته بعصر الإحياء، فإن مفهـوم القصـة الحديث، القائم على هذه الأسس الجـديـدة بعـد عصر الإحياء، إذا أخذناه مقياساً للبحث في القصة القديمة، انفتحت ثغرات واسعة جـداً للشك في قيمة التراث القصصي، الذي خلفته الأمم والشعوب غير العربية، التي لا يشك أحد من الباحثين أنها ذوات تراث غني في هذا الباب، مع أن تراثها هذا لا يخضع لهذه القواعد والمفاهيم، التي وضعها النقد الحديث، ووضعتها المذاهب المستجدة للقصة في العصور الأخيرة.
وإذا أبعدنا النظر إلى قصص الهند والفرس واليونان والرومان مثلاً، هذه الأمم أو الشعوب التي لا يختلف الباحثون بأنها كانت على غنى وافر بالثروة القصصية، فإننا لا نجد الفرق بين قصصها وقصص العرب في التاريخ، فرقاً عظيماً يصح أن يحمل عدداً من الباحثين على نكران القصة العربية، أو التقليل من شأنها كما نعلم.
فهذه الإلياذة وهي أشهر آثار اليونان في القصص، صحيح أنها كانت تنتسب إلى هـوميـروس، ولكن الذي عليه العلماء أنها ترجع إلى أصـل تـاريخي سابق لعهـد هوميروس، أعني حصار طروادة، وأن الشعب اليوناني كان يتداول القصة قبل عهـد هذا الشاعـر بـأجـيـال طـوال، وأنها كـانـت تنمو وتتسع بتـوالي الأجيال على ألسنة القصاصين من الشعب، حتى جاء هوميروس فنظمهـا ودونها وأتم فصولها فنسبت إليه، وهي بجملتها انعكاسات لحياة أجيال من الشعب الإغريقي، بما في هذه الحياة من أوضاع واقعية ومن خرافات، وعقائد وحوادث ذات دلالات واقعية أيضاً، ولكن من وراء الأساطير والخرافات.
وما قصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، وقصة سيف بن ذي يزن، والسيـرة الهلالية مثلاً، إلا قصص شعبية تداولتها الأجيال العربية كما حدث في الإلياذة، غير أن القصص العربية هذه لم ينتسب بعضها أو أكثرها إلى مؤلف كهوميروس، أو لم يتفق المؤرخون على نسبتها إلى مؤلف بعينه؟. هذا فضلاً عن التشابه الملحوظ بين الإلياذة وقصة عنترة في عدة جوانب. وإذا كان هناك اختلاف بين الإلياذة وسيرة عنترة مثلا في الطابع الفني، فذلك مصدره أن الإلياذة كان لها حظ هذه العناية من شاعر عظيم في شعب اليونان، أضفى عليها هذا الطابع الذي رفعها في تاريخ الآداب العالمية، ولم تصب سيرة عنترة، أو سيرة بني هلال مثلاً شيئاً من هذا، بل بقيت إلى أيدي القصاصين البسطاء، يقصونها بلهجاتهم وأساليبهم البسيطة على الشعب، جيلا بعد جيل.
ولعل سبباً من الأسباب التي كانت تباعد بين طبقات العامة في الشعب، وكبـار أدباء العرب في معظم الأجيال العربية، قد حرم هذا التراث من القصص الشعبي، أن ينال مكانته الجدير بها في تاريخ الأدب العربي.
ولعل هذا السبب نفسه هو الذي حمل الباحثين المحدثين، العرب بخاصة، أن يتهـمـوا تـاريخنـا الأدبي بالجـدب في باب القصص، لأنهم لم ينظروا إلى مثـل هـذه الأقاصيص الشعبية الغنية الحية، نظرة اهتمام وتقدير، إذ حصروا نظرهم إليها في وجهة كونها تمثل لغة العامة وأسلوبها وتفكيرها، وانصرفوا عن كل دلالالتها الأخـر، من حيث إنها انعكاسات واقعية لأجيال من تاريخ الشعب الذي يتناقلهـا ويضيف إليها، معبرا عن مخزون ثقافاته ومشاعره وأشواقه وأوضاع حياته في كل جيل.
ومن هنا نشأ تقليـد متبع عند الذين يـدرسـون القصـة العـربـيـة القـديمة، أو يتحدثون عنها، فأخذوا لا ينظرون للمسألة إلا من جانب القصص التي تهتم بها الخاصة، ويهملون أو يتجاهلون القصص التي تتداولها العامة، فإذا هم لا يرون إلا تراثاً قليل الكم لا يؤلف «إلياذة» عربية، أو «أوذيسة» أو «شاهنامة»!..
على أن علماء الاستشراق كانوا يولون هذا القصص الشعبي، عناية واهتمامـا ظاهرين، فقد وضعوا العديد من المؤلفات والأبحاث الخاصة بهذا النوع من تراثنا القصصي، فنحن نقرأ لمثل «بارت» في دائرة المعارف الإسلامية، قوله عن قصة سيف بن ذي يزن مثلا «إن هذه القصة تعطينا صـورة صادقة عن عقلية الشعب المسلم في مصر أواخر القرون المظلمة، وتؤلف ـ في الوقت نفسه ـ مصدراً قيماً لتاريخ الإسلام بمعناه الصحيح». ومهما يكن القصد من هذا القول فإنـه ـ على أي حـال ـ دليل على تنبه هؤلاء النفر من الباحثين إلى القيمة الاجتماعية، التي يحتويها قصصنا الشعبي
ومن عجب أن عدداً كثيراً من الذين درسوا قضيـة القصـة في الأدب العربي، حين قصروا نظرهم على القصص التي تهتم بها الخاصة، أي تلك التي تتسم بطابع النثر الفني، أو التي تدخل في نطاق الشعر الكلاسيكي، فرأوا قلة هذه القصص بالقياس إلى سائر أنواع الأدب العربي، أخذوا يؤولون الأمر على غير وجه الواقع التاريخي، ويذهبون في ذلك مذاهب مختلفة أهون شأنها أنها لا تثبت للنقد العلمي، لأنها تفرض على الشعب العربي أحكاماً لا سند لها مطلقاً في الحقائق العلمية، كأمثال قولهم أن العرب لم ينشئوا القصص الكبيرة والملاحم، لضعف في قدرة الخيال العربي على الابتداع والتحليق، وكقول زكي مبارك «إن العرب بفطرتهم لم يكونوا يميلون إلى القصص المعقـد، الذي وجد كثير منه فيها أثر عن اليونان القدماء، والذي ذاع عند الإنجليز والروس والفرنسيس والألمان».
1956*
* باحث أكاديمي وناقد لبناني «1910 - 1987».