في المجتمعات التي يتكرس فيها نظام الأبوة، ولاء الفرد للعائلة، ثم العشيرة، والمذهب والدين، وفكرة الوطن والأمة لا معنى لهما.
* ناقذة عراقية الروائي العراقي أزهر جرجيس في روايته الصادرة مؤخرًا عن دار الرافدين بعنوان (حجر السعادة). رمى بحجره المركزية الأبوية التي تسيطر على المجتمعات، وما أعنيه إن الكاتب وظف الشخصيات الهامشية وهي (الطفل والمرأة) وعبرهما يقوض المركز المتمثل بثالوث الأبوية (الأب، الدين، الحاكم)، وهذا الثالوث ورد بالرواية بشخصيات تعبر عنهما. اختار لهذه المهمة راويًا بضمير المتكلم (أنا) فصار الطفل الهامش (كمال) هو الراوي الذي يسرد حياته من الطفولة، التي تبدأ من مدينة الموصل وتنتهي ببغداد. يمثل الطفل كمال (هامشين): الأول: إنه مسيحي فهذا هامش ديني، والثاني: إنه طفل منبوذ قبيح يتعرض إلى تنمر وتعنيف من أبيه، وزوجة الأب القاسية، ومعلم اللاهوت في المدرسة في ستينات القرن الماضي بالموصل. ومحاولة التحرر من ثالوث الأبوية، تبدأ بحادثة غرق ريمون أخيه الصغير في النهر، فتنهال عليه اللعنات والغضب من أبيه وزوجته أم ريمون، وما يفعله هذا الطفل سوى الهرب إلى بستان الجن يختبئ بداخله، فيمكن عدّ هذا المكان أليفًا وليس عنيفًا؛ لأنّه حمى الطفل من العذاب، وفتح له باب الحرية الأول، فكمال عن طريق بستان الجن هرب إلى بغداد وهنا تكمن أهمية المكان بأنه رمزٌ للتحول. وهروبه من ثالوث الأبوية الأول ( الأب زوجته المعلم) وتقويضه لهم؛ فالروائي قد غيّب هذه الشخصيات من روياته، وهذا التغيّب جاء بوعي تام منه، فقوض المركزية الأولى، وعزز من حضور الهامش (الطفل)، والأخير دخل بغداد فأحتضنه الشارع، والمقهى وبدأ يتعرض للتعنيف والنبذ، فكان الحضن الدافئ (خان الرحمة) والمسؤول عنه شخصية مولانا، و هي رمزية عن الدين، فهو يصوم ويصلي ويتهجد، لكنه يرسل الأطفال المشردين إلى منازل الأغنياء لسرقتهم، وما أن أخفق أحدهم حتى تنزل عليه آيات العذاب منه، وكان كمال أحد الذين تعرضوا لنفحات العذاب، وقرر إن يحرق الخان ومولانا، فهيأت له الأحداث لنجاح مخططه في ليلة الخميس التي يغيب فيها الاطفال ولم يبق سوى الطفل ( هوبي) خادم مولانا، الذي كان يضاجعه، والصبي مستسلم، فسمع مولانا شهقة كمال وحاول القضاء عليه: «قوة غريبة تدب في جسدي، قوة تشبه تلك التي يمنحها الله للقطط حين تُحاصر في ركن ضيق. عضتتُ يده واندفعت إلى الأمام بغية الوصول إلى مزلاج الخلاص.
وفي غمرة الصراع انكفأت المدفأة النفطية واشتعلت النار في الحصير. هبّ الساقط ليخمدها فاغتنمت الفرصة وهربت. لاحقتني صرخات الوعيد والشتائم حرقتنا ابن الكلبة.. غير أني لم اكترث ؛ أطلقت ساقي للريح مخلّفًا ورائي عامين من الذل» ص 89.
إن الهروب الثاني وحرق الخان ومولانا هما التابو الديني والذي يمثّل المركز، وهو أبوية خرى تمارس على الفرد، ففي المجتمعات التي يتكرس فيها نظام الأبوة، يكون ولاء الفرد بتجاه العائلة، ثم العشيرة، والمذهب والدين، وفكرة الوطن والأمة لا معنى لهما الا وفق ارتباطها بالنماذج الأولية للقرابة والدين. محاولة التحرر من الأبوية تصب في إنشاء فرد تجري فيه روافد الوطنية، وهذا ما يريده الكاتب. الطفل نشأ في جو لاهب من الصراعات، فهل من الممكن أن ينشأ شابًا سويًا؟
كمال الصبي المراهق لم يستقر في مكان دافئ إلا بعد أن فقد إحدى كليتنه، فتبناه المصور العم خليل، وأسكنه في بيته، لكنه رفض أن يدوم سكنه؛ لا يريد أن يكون طيفًا لولدهم الميت، فعاش بغرفة صغيرة فوق مبنى الاستوديو، رافضًا كلّ أنواع الأبوة.
صار، شابًا وأحب نادية، لكنّ اختلاف الدين كان العائق بينهما، فتزوجت غيره وسافرت، لكنها عادت بعد سقوط النظام السياسي بالعراق عام 2003، ونادية هي الهامش الآخر الذي سيقوض المركزية الأخرى (الحاكم)، فعاشت مع كمال بشقة بشارع الرشيد في زمان الحرب الطائفية وكانت تكتب مقالات باسم رجل ( مستعار)، تفضح فيها فساد الأنظمة ولا سيما الزعيم حنش، ويعدّ رمزًا عن كل الحكام الدكتاتوريين، فكيف لامرأة تكتبُ باسمٍ مستعار إن تقضي على مركزية الحاكم؟ الكاتب تدرج بالحدث تصاعديًا حتى وصل إلى الاحتجاج العراقي الذي تنبأت به نادية، فهنا يتعرض كمال إلى محاولة اغتيال ولم يمت، لكنّه يصارع الموت قرابة شهور بالمستشفى، وعند خروجه أخبرته نادية إن الزعيم حنش سُلب الحكم منه.
فهنا تمّ تقويض المركزية التي تقصي الهوامش الاجتماعية، وإنهاء المركز، وقد يتبادر في ذهن القارئ تساؤل: لماذا الطفل والمرأة قد صُنفا ضمن الهامش؟
إنَّ هذا التصنيف قديم منذ إفلاطون فقد جعل المرأة والطفل والعبيد بطبقة أدنى من الرجال والحكام والكهنة.
وهذه الثلاثية لبست تاج المجتمع، ولم يتحقق التوازن الاجتماعي إلا بنزع التاج. رواية حجر السعادة يمكن عدّها انتقالة مهمة في الرواية العراقية؛ على المستويين الفني، والمضمون، فالأوّل يتضح فيه مهارة الكاتب أزهر باستعمال التقنيات السردية، وإعطاء الحرية لشخصياته تتحرك وفق الأحداث، والراوية هي مشهد بحسب تعريفات بعض النقاد، ونلحظ دقته التصويرية في صناعة مشاهد الرواية فظهرت كأنها فيلم سينمائي.
كما أن المضون وما بثّه من أفكار تغوصُ في جوهر الإنسان، ومن الممكن أن يصبحَ الطفل المعنف إنسانًا سويًا وليس مجرمًا.
* ناقدة عراقية.
* ناقذة عراقية الروائي العراقي أزهر جرجيس في روايته الصادرة مؤخرًا عن دار الرافدين بعنوان (حجر السعادة). رمى بحجره المركزية الأبوية التي تسيطر على المجتمعات، وما أعنيه إن الكاتب وظف الشخصيات الهامشية وهي (الطفل والمرأة) وعبرهما يقوض المركز المتمثل بثالوث الأبوية (الأب، الدين، الحاكم)، وهذا الثالوث ورد بالرواية بشخصيات تعبر عنهما. اختار لهذه المهمة راويًا بضمير المتكلم (أنا) فصار الطفل الهامش (كمال) هو الراوي الذي يسرد حياته من الطفولة، التي تبدأ من مدينة الموصل وتنتهي ببغداد. يمثل الطفل كمال (هامشين): الأول: إنه مسيحي فهذا هامش ديني، والثاني: إنه طفل منبوذ قبيح يتعرض إلى تنمر وتعنيف من أبيه، وزوجة الأب القاسية، ومعلم اللاهوت في المدرسة في ستينات القرن الماضي بالموصل. ومحاولة التحرر من ثالوث الأبوية، تبدأ بحادثة غرق ريمون أخيه الصغير في النهر، فتنهال عليه اللعنات والغضب من أبيه وزوجته أم ريمون، وما يفعله هذا الطفل سوى الهرب إلى بستان الجن يختبئ بداخله، فيمكن عدّ هذا المكان أليفًا وليس عنيفًا؛ لأنّه حمى الطفل من العذاب، وفتح له باب الحرية الأول، فكمال عن طريق بستان الجن هرب إلى بغداد وهنا تكمن أهمية المكان بأنه رمزٌ للتحول. وهروبه من ثالوث الأبوية الأول ( الأب زوجته المعلم) وتقويضه لهم؛ فالروائي قد غيّب هذه الشخصيات من روياته، وهذا التغيّب جاء بوعي تام منه، فقوض المركزية الأولى، وعزز من حضور الهامش (الطفل)، والأخير دخل بغداد فأحتضنه الشارع، والمقهى وبدأ يتعرض للتعنيف والنبذ، فكان الحضن الدافئ (خان الرحمة) والمسؤول عنه شخصية مولانا، و هي رمزية عن الدين، فهو يصوم ويصلي ويتهجد، لكنه يرسل الأطفال المشردين إلى منازل الأغنياء لسرقتهم، وما أن أخفق أحدهم حتى تنزل عليه آيات العذاب منه، وكان كمال أحد الذين تعرضوا لنفحات العذاب، وقرر إن يحرق الخان ومولانا، فهيأت له الأحداث لنجاح مخططه في ليلة الخميس التي يغيب فيها الاطفال ولم يبق سوى الطفل ( هوبي) خادم مولانا، الذي كان يضاجعه، والصبي مستسلم، فسمع مولانا شهقة كمال وحاول القضاء عليه: «قوة غريبة تدب في جسدي، قوة تشبه تلك التي يمنحها الله للقطط حين تُحاصر في ركن ضيق. عضتتُ يده واندفعت إلى الأمام بغية الوصول إلى مزلاج الخلاص.
وفي غمرة الصراع انكفأت المدفأة النفطية واشتعلت النار في الحصير. هبّ الساقط ليخمدها فاغتنمت الفرصة وهربت. لاحقتني صرخات الوعيد والشتائم حرقتنا ابن الكلبة.. غير أني لم اكترث ؛ أطلقت ساقي للريح مخلّفًا ورائي عامين من الذل» ص 89.
إن الهروب الثاني وحرق الخان ومولانا هما التابو الديني والذي يمثّل المركز، وهو أبوية خرى تمارس على الفرد، ففي المجتمعات التي يتكرس فيها نظام الأبوة، يكون ولاء الفرد بتجاه العائلة، ثم العشيرة، والمذهب والدين، وفكرة الوطن والأمة لا معنى لهما الا وفق ارتباطها بالنماذج الأولية للقرابة والدين. محاولة التحرر من الأبوية تصب في إنشاء فرد تجري فيه روافد الوطنية، وهذا ما يريده الكاتب. الطفل نشأ في جو لاهب من الصراعات، فهل من الممكن أن ينشأ شابًا سويًا؟
كمال الصبي المراهق لم يستقر في مكان دافئ إلا بعد أن فقد إحدى كليتنه، فتبناه المصور العم خليل، وأسكنه في بيته، لكنه رفض أن يدوم سكنه؛ لا يريد أن يكون طيفًا لولدهم الميت، فعاش بغرفة صغيرة فوق مبنى الاستوديو، رافضًا كلّ أنواع الأبوة.
صار، شابًا وأحب نادية، لكنّ اختلاف الدين كان العائق بينهما، فتزوجت غيره وسافرت، لكنها عادت بعد سقوط النظام السياسي بالعراق عام 2003، ونادية هي الهامش الآخر الذي سيقوض المركزية الأخرى (الحاكم)، فعاشت مع كمال بشقة بشارع الرشيد في زمان الحرب الطائفية وكانت تكتب مقالات باسم رجل ( مستعار)، تفضح فيها فساد الأنظمة ولا سيما الزعيم حنش، ويعدّ رمزًا عن كل الحكام الدكتاتوريين، فكيف لامرأة تكتبُ باسمٍ مستعار إن تقضي على مركزية الحاكم؟ الكاتب تدرج بالحدث تصاعديًا حتى وصل إلى الاحتجاج العراقي الذي تنبأت به نادية، فهنا يتعرض كمال إلى محاولة اغتيال ولم يمت، لكنّه يصارع الموت قرابة شهور بالمستشفى، وعند خروجه أخبرته نادية إن الزعيم حنش سُلب الحكم منه.
فهنا تمّ تقويض المركزية التي تقصي الهوامش الاجتماعية، وإنهاء المركز، وقد يتبادر في ذهن القارئ تساؤل: لماذا الطفل والمرأة قد صُنفا ضمن الهامش؟
إنَّ هذا التصنيف قديم منذ إفلاطون فقد جعل المرأة والطفل والعبيد بطبقة أدنى من الرجال والحكام والكهنة.
وهذه الثلاثية لبست تاج المجتمع، ولم يتحقق التوازن الاجتماعي إلا بنزع التاج. رواية حجر السعادة يمكن عدّها انتقالة مهمة في الرواية العراقية؛ على المستويين الفني، والمضمون، فالأوّل يتضح فيه مهارة الكاتب أزهر باستعمال التقنيات السردية، وإعطاء الحرية لشخصياته تتحرك وفق الأحداث، والراوية هي مشهد بحسب تعريفات بعض النقاد، ونلحظ دقته التصويرية في صناعة مشاهد الرواية فظهرت كأنها فيلم سينمائي.
كما أن المضون وما بثّه من أفكار تغوصُ في جوهر الإنسان، ومن الممكن أن يصبحَ الطفل المعنف إنسانًا سويًا وليس مجرمًا.
* ناقدة عراقية.