كيف يتحرك الجسد العليل ليتغلب على أمراضه وأوجاعه لينهض؟ وبأي دواء يستشفي من دائه: هل الدواء الذي ورثه عن الأجداد والمعبأ في أغلفة التراث كاف لتحقيق الشفاء؟، أم هو الدواء الحديث المستورد من الغرب والمغلف بأغلفة التكنولوجيا؟ ليس السؤال بهذه الصيغة جديدا، بل هو سؤال قـديم قدم مشروع النهضة في بداية القرن التاسع عشر. ولأن السـؤال القديم يستدعي الإجابات القديمة الجاهزة، فقد طرح مؤلف كتابنا السؤال بطريقة مغايرة: ما الذي فعلته أمم أخـرى كانت في مثل موقفنا الحضاري، لكنها تجاوزت الأزمة ونهضت وحققت؟.
هناك مقارنات عديدة بين نمطين من المجتمعات ونمطين من الثقافات: مجتمعات الإنتاج التي تنتج الفكر والثقافة، ومجتمعات الاستهلاك التي تكتفي باستهلاك ما ينتجه غيرها على مستوى الإنتاج المادي كما على مستوى الإنتـاج الفكـري والثقـافي. هذان النمطان من المجتمعات والثقافات يشيران دلاليا إلى المجتمعـات الأوروبية، مجتمعات الإنتـاج المادي والفكري، وإلى المجتمعات العربية المستهلكـة لكل ما تنتجـه أوروبـا من إنتـاج مـادي وفكـري. وداخل المجتمعات العربية يمكن الحديث عن مجتمعات منتجة وأخرى مستهلكة، لكن الإنتاج هنا له مفهوم مغاير، فهو في الـواقع إعادة إنتـاج إما للمنتج الأوروبي أو للمنتج التراثي. وباختصار فالإنتاج في العالم العربي - المادي والفكري - هو إنتاج في دائرة الاستهلاك بشكل عام، وليس إنتاجا في دائرة الإبداع.
هذا التـوصيف الدقيق للوضع الثقافي والاجتماعي العربي كـان من شأنه أن يتفاعل مع تحديد الخصوصية في صراع البداوة/ الحضارة من جهة، وكيف ننتقل من حالة الاستهلاك إلى حالة الإنتاج من جهة أخرى؟ والإجابة أن شيئا لن يتحقق إلا بالتحرر الشامل، التحرر بالثقافة الإنتاجية التي عبر عنها المؤلف بأنها: «تدعو الإنسان إلى التفكير وتزرع فيه روح التفاؤل وروح الجد، وتفتح أمامـه آفاق الكشف والاختراع والعطاء والإبداع، بينما الثقافة الاستهلاكية تخدره بالكسل اللذيذ والمتعة العاجلة وتقتل فيه روح التساؤل والتفكير والمعاناة وتحوله إلى عنصر سلبي يتلقى عطاء الغير دون عطاء منه لهم» (253). ولكن حالة التحرر المطلوبة شرط لتحقيق الثقافة الإنتاجية، كما أنها حالة لا تتحقق إلا في مناخ تسوده تلك الثقافة. هل نحن إزاء الدور المنطقي المعروف عند الفلاسفة، أو بعبارة أخرى هل نحن إزاء لغز البيضة والدجاجة وأيهما كان في البدء؟ ليس الأمر كذلك على الإطلاق. لن نقف مـع المؤلف عنـد جعل الفكـر الحر شرطـا لتحقق الديمقراطيـة، لأن ذلك الفكر الحر يتطلب المفكرين الأحرار المستعـدين للتضحية في عصور الاستبداد والديكتاتورية.
والسؤال الآن هل المثقف العربي مستعد لدفع ثمن إنتاج الفكر الحر؟ أم أنه سيتخلى عن دوره في إنتاج الفكر كلما لاح له من السلطة السياسية طرف العصا أو طرف الجزرة، أو كلما برز له من تحت طرف ثوب المعز السيف أو الذهب؟ إن علاقة المثقف العربي تاريخيا بالسلطة السياسية من جهة، وبالعامة أو الجماهير من جهة أخرى، علاقة ليست فوق مستوى الشبهات.
لو أردنا مناقشة تحليل ابن خلدون للعصبية، وهو أن «مفهـوم العصبية عنـد ابن خلدون هو الرابطة القومية»، هذا يومئ إلى طرف من حل الإشكالية: أعني دور الدين عامة والإسلام بصفة خاصة، في صنع التقدم وتحقيق النهضة.
وبصرف النظر عن أن مفهوم الدولة عند ابن خلدون يشير إلى السلطة، فإن المغـزى الأهم والأخطر: أن الدين عنصر من عناصر النهوض، عنصر مهم وحيوي لا شك في ذلك، بشرط فهمه فهما علميا عقلانيا وتأويله تأويلا عقليا. الأهم من ذلك أن توضع معادلة النهضة في سياقها الحقيقي: فهم الذات في تاريخيتها وفي خصـوصيتها، وفهم الآخر - وليس الغربي فقط- في تاريخيته وفي خصوصيته، والتمسك بالحقيقة في إنتاج الفكر سعيا إلى التحرر، وذلك بتحرر المفكـر نفسه من رهبة السيف ومن رغبة الذهب، أيا كان الواهب: خليفة المسلمين أم شيخ القبيلة أم ساري عسكر.
1993*
* باحث وأكاديمي مصري «1943 - 2010».
هناك مقارنات عديدة بين نمطين من المجتمعات ونمطين من الثقافات: مجتمعات الإنتاج التي تنتج الفكر والثقافة، ومجتمعات الاستهلاك التي تكتفي باستهلاك ما ينتجه غيرها على مستوى الإنتاج المادي كما على مستوى الإنتـاج الفكـري والثقـافي. هذان النمطان من المجتمعات والثقافات يشيران دلاليا إلى المجتمعـات الأوروبية، مجتمعات الإنتـاج المادي والفكري، وإلى المجتمعات العربية المستهلكـة لكل ما تنتجـه أوروبـا من إنتـاج مـادي وفكـري. وداخل المجتمعات العربية يمكن الحديث عن مجتمعات منتجة وأخرى مستهلكة، لكن الإنتاج هنا له مفهوم مغاير، فهو في الـواقع إعادة إنتـاج إما للمنتج الأوروبي أو للمنتج التراثي. وباختصار فالإنتاج في العالم العربي - المادي والفكري - هو إنتاج في دائرة الاستهلاك بشكل عام، وليس إنتاجا في دائرة الإبداع.
هذا التـوصيف الدقيق للوضع الثقافي والاجتماعي العربي كـان من شأنه أن يتفاعل مع تحديد الخصوصية في صراع البداوة/ الحضارة من جهة، وكيف ننتقل من حالة الاستهلاك إلى حالة الإنتاج من جهة أخرى؟ والإجابة أن شيئا لن يتحقق إلا بالتحرر الشامل، التحرر بالثقافة الإنتاجية التي عبر عنها المؤلف بأنها: «تدعو الإنسان إلى التفكير وتزرع فيه روح التفاؤل وروح الجد، وتفتح أمامـه آفاق الكشف والاختراع والعطاء والإبداع، بينما الثقافة الاستهلاكية تخدره بالكسل اللذيذ والمتعة العاجلة وتقتل فيه روح التساؤل والتفكير والمعاناة وتحوله إلى عنصر سلبي يتلقى عطاء الغير دون عطاء منه لهم» (253). ولكن حالة التحرر المطلوبة شرط لتحقيق الثقافة الإنتاجية، كما أنها حالة لا تتحقق إلا في مناخ تسوده تلك الثقافة. هل نحن إزاء الدور المنطقي المعروف عند الفلاسفة، أو بعبارة أخرى هل نحن إزاء لغز البيضة والدجاجة وأيهما كان في البدء؟ ليس الأمر كذلك على الإطلاق. لن نقف مـع المؤلف عنـد جعل الفكـر الحر شرطـا لتحقق الديمقراطيـة، لأن ذلك الفكر الحر يتطلب المفكرين الأحرار المستعـدين للتضحية في عصور الاستبداد والديكتاتورية.
والسؤال الآن هل المثقف العربي مستعد لدفع ثمن إنتاج الفكر الحر؟ أم أنه سيتخلى عن دوره في إنتاج الفكر كلما لاح له من السلطة السياسية طرف العصا أو طرف الجزرة، أو كلما برز له من تحت طرف ثوب المعز السيف أو الذهب؟ إن علاقة المثقف العربي تاريخيا بالسلطة السياسية من جهة، وبالعامة أو الجماهير من جهة أخرى، علاقة ليست فوق مستوى الشبهات.
لو أردنا مناقشة تحليل ابن خلدون للعصبية، وهو أن «مفهـوم العصبية عنـد ابن خلدون هو الرابطة القومية»، هذا يومئ إلى طرف من حل الإشكالية: أعني دور الدين عامة والإسلام بصفة خاصة، في صنع التقدم وتحقيق النهضة.
وبصرف النظر عن أن مفهوم الدولة عند ابن خلدون يشير إلى السلطة، فإن المغـزى الأهم والأخطر: أن الدين عنصر من عناصر النهوض، عنصر مهم وحيوي لا شك في ذلك، بشرط فهمه فهما علميا عقلانيا وتأويله تأويلا عقليا. الأهم من ذلك أن توضع معادلة النهضة في سياقها الحقيقي: فهم الذات في تاريخيتها وفي خصـوصيتها، وفهم الآخر - وليس الغربي فقط- في تاريخيته وفي خصوصيته، والتمسك بالحقيقة في إنتاج الفكر سعيا إلى التحرر، وذلك بتحرر المفكـر نفسه من رهبة السيف ومن رغبة الذهب، أيا كان الواهب: خليفة المسلمين أم شيخ القبيلة أم ساري عسكر.
1993*
* باحث وأكاديمي مصري «1943 - 2010».