جبرا إبراهيم جبرا

وهكذا دخلت سنتي الثالثة عشرة، ووقفت على عتبة الكشوف التي سوف تتحقق سراعاً في السنوات القليلة التالية، سنوات المراهقة. كانت هنـاك مدينة القدس الجميلة، اكتشفهـا حياً حياً، وحجراً حجراً، القـديـمـة منهـا والجديدة، تاريخها وحاضرها. وكانت هناك المجلات المصرية تأتينا كل أسبوع بالمعرفة والفكاهة وصراعات القاهرة السياسية ومعاركها الأدبية.

وكانت هناك الكتب نستحصلها بالمشقة، والحيلة والتضحية. السير القديمة، والقصص، والروايات، ودواوين الشعر والـتـواريـخ. وكان هناك الأساتذة الجدد يعودون من جامعات العالم ويضخـون فينـا عشق المعرفة.

وكانت هناك الفتيات الشهيّات جعلت أراهن في كل مكان كالسائرات في حلم لا آخر له. أم أنني أنا الذي كنت معهن كالسائر في حلم، وأحرم النوم، فأكتب الرسائل الطويلة محاولا أن أزاوج بين الحلم والحقيقة، دون جدوى؟

وكـان هنـاك الرسم بالقلم والألوان المائيـة، يجعلني أرى الناس والأشياء بحدة ووهج. وكانت هناك الموسيقى: العود والغيتار والكمان أعلم نفسي العزف على كل منها زمناً حتى الحد الذي لا أستطيع تخطيه لأن ليس لي من يعلمني، ولكنني بقيت مع الأوكورديون الذي اشتراه يوسف بأقساط صغيرة، وفتح لنا عالماً من الصخب والمرح. ثم كانت الأسطوانات الكلاسيكية، والهوس ببيتهوفن، جاءني معظمه عن صديق كان أبوه كاسباً متجولا يحمل على صدره طيلة النهار صندوقاً كبيرا من زجاج ليبيع ما فيه من «الشامية» في مخروطات ورقية، أما صديقي فيعمل صائغاً عند جواهري أرمني في المدينة القديمة، ولكنه تعلم أصول الموسيقي وبرع فيها، وجعل يعزف ألحاناً لبيتهوفن (عن المدونات الموسيقية) على الكمان، محركاً أنامله الطويلة الرهيفة على الأوتـار بدقة وسرعة كمن لا يشبه البشر، ويتصور أن روح بيتهوفن تقمصت فيه، لأنه يشبهه وجها، ويجمع كتباً عنه لا يستطيع أن يقرأ منها إلا أسطراً قليلة لأنها بالإنجليزية.

وكانت هناك الكلية العربية، بعميدها الأستاذ الكبير أحمد سامح الخالدي ـ الجهوري الصوت، القوي الحضور، الذي جعل من نظرياته في التربية طريقة في الحياة، فلا يرضى من تلاميذه إلا المزيد من المعرفة والنبوغ كمبدأ وطني لا هوادة فيه، لا سيما في موقع الكلية الجديد على جبل المكبر المفتوح على الكون ورياحه الأربع، حيث كنا نطالع وندرس بشغف والحاح طوال النهار، ثم طوال الليل، حتى المرض... وهو الذي اختارني أخيراً لكي أرسل في بعثة للدراسة في الخارج، وكـان هنـاك الوعي السياسي المتزايد، والمظاهرات، وإضراب عام 1936، والثورة التي استمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد ذلك بسنوات ثلاث، وكانت هناك المشاوير الطويلة، والسير أميالا كل يوم بلا كلل، لأن منـازلـنـا لا تقـوى على استيعاب حواراتنا الفائضة المتفجرة، التي لا تكاد الدنيا أن تسعها.

ثم كانت بدايات الكتابة وبدايات الترجمة، بلذائذها ومشاقها، وكان هناك أيضاً العمل في التدريس بضعة أشهر في مدرسة ابتدائية بائسة والتهيؤ بعدها للسفر في بعثة إلى إنجلترا الخضراء، الضاجة يومئذ بقنـابـل الحـرب، وصيحات الطلاب الكثيري الحركة والشرب والجدل، والطالبات البراقات العيون العريضات الشفاه، وصراخ الكتب التي رحت اشتريها بالعشرات، ذلك الصراخ الذي عايشته سنوات يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، مع صراخ داخلي كان يشتد بي آنا حتى البكاء والجنون، وأنا حتى الصمت والذهول.

1986*

* أديب وأكاديمي فلسطيني / عراقي «1920- 1994».