رأيت بأم عيني هاتين وزيرا في بريطانيا بأحد مطاعم لندن يقف عند الباب مستنداً إلى إحدى العضائد مع زوجته العجوز وهو ينظر إلى ساعته بانتظار أن تفرغ إحدى الموائد
يجب أن تحب السماء لكي تمطر. والأشجار لكي تزهر.
والفنان لكي يبدع.
والعاقر لكي تنجب
والجيوش لكي تنتصر. ولذلك، فالإنسان العربي الذي تأكد له بعد طول انتظار بأنه لن ينال من الحب إلا مـا تـقـدمـه لـه الأفلام المصرية والهندية، وأنه بعـد الصفعات المدوية التي تلقاها عن كل سؤال سأله أو فضول بدر منه، لم يعد يتوقف عند الأنهار الكبيرة الهادرة من حوله على امتداد الأرض العربية أو منابعها ومصباتها في نهاية الأمر، وصار يكتفي بالطحالب والأعشاب النامية على ضفافها.
فهو، مثلا، يستطيع أن يفهم ويتفهم، وبكل بساطة، الدوافع والأسباب التي تجعل المبدعين والمتفوقين العظام في الشعر أو الفن أو العلم أو الـفـلـسـفـة يـتـعـالون على مـن حـولـهم من الناس الـعـاديين، ويتصرفون على أساس أنهم من طينة غير طينة البشر، وبالتالي، فهو يستطيع أيضا أن يفهم ويتفهم الأسباب والدوافع التي كانت تجعل أيا من إخوته العاديين هؤلاء يتقبل هذا التعالي بكل رحابة صدر، ولا يترك فرصة أو مناسبة تمر دون أن يعبر عن ترحيبه واعتزازه به، كأن يسارع مثلا وبكل طيبة خاطر لتقديم مقعده في الحافلة لبيكاسو، وفي الحانة لرامبو، وفي المسرح لجوته، ودوره في الفرن لماكسيم غوركي، وفي الجمارك لساره برنار، وفي الدوائر الرسـمـيـة لـتـشـيـخـوف، وعلى إشارات المرور لهمنجواي، وفي العيادات الطبية لأينشتاين. ولكنه لا يستطيع أن يفهم أو يتفهم لماذا عليه هو أن يعطي مقعده في الباص والطائرة والمسرح والملاعب الرياضية ودوره في الطوابير الاستهلاكية والدوائر الرسمية والبعثات التعليمية والقروض المصرفية وعند الإشارات الضوئية والعيادات الطبية و«بالصرماية» لمن ليس متفوقاً في شيء، ينتمي، وبالمصادفة، لهذا.....أو ذاك أو إحـدى الـقـوى الدائرة في فلكه.
مع أنني رأيت بأم عيني هاتين اللتين سيأكلهـمـا الـتـلـفـزيـون وزيرا في بريطانيا بأحد مطاعم لندن يقف عند الباب مستنداً إلى إحدى العضائد مع زوجته العجوز وهو ينظر إلى ساعته بانتظار أن تفرغ إحدى الموائد. طبعاً لم أصدق عيني ولا أذني، ولكن عندما أكد لي مـضـيـفنا ذلك وقـال: هنا أو في أي بلد أوروبي، الوزير خارج مكتبه مثله مثل أي مواطن عادي، ولا أحد يعيـره انتباهاً. فقلت له: والله لو كان هذا في أي بلد عربي ودخل مسؤول أو شرطي إلى مثل هذا المطعم أو سواه ولم يجـد مـائـدة شـاغـرة لألقى بالزبائن كلهم في الحلة، وجلس مكانهم، هذا إذا بقي في الأصل زبائن، ولأقـيـم فـي الحـال جسر جوي بين المطبخ ومائدته، ولا نصرف جميع العاملين في المطعم لخدمته وتلبية طلباته وانتظار إشارة من أصبعه أو مسدسه أو خنجره، وكأنه أهم من كل أنباء وأحداث العالم. وعلى ماذا. والله لا أعلم!
على فلسطين التي استعادوها! على الوحدة العربية أو الإسلامية أو الإفريقية التي حققوها! على العلوم التي طوروها! أو السفن الفضائية التي أطلقوها!
1986*
* كاتب وشاعر ومسرحي سوري «1934 - 2006»
يجب أن تحب السماء لكي تمطر. والأشجار لكي تزهر.
والفنان لكي يبدع.
والعاقر لكي تنجب
والجيوش لكي تنتصر. ولذلك، فالإنسان العربي الذي تأكد له بعد طول انتظار بأنه لن ينال من الحب إلا مـا تـقـدمـه لـه الأفلام المصرية والهندية، وأنه بعـد الصفعات المدوية التي تلقاها عن كل سؤال سأله أو فضول بدر منه، لم يعد يتوقف عند الأنهار الكبيرة الهادرة من حوله على امتداد الأرض العربية أو منابعها ومصباتها في نهاية الأمر، وصار يكتفي بالطحالب والأعشاب النامية على ضفافها.
فهو، مثلا، يستطيع أن يفهم ويتفهم، وبكل بساطة، الدوافع والأسباب التي تجعل المبدعين والمتفوقين العظام في الشعر أو الفن أو العلم أو الـفـلـسـفـة يـتـعـالون على مـن حـولـهم من الناس الـعـاديين، ويتصرفون على أساس أنهم من طينة غير طينة البشر، وبالتالي، فهو يستطيع أيضا أن يفهم ويتفهم الأسباب والدوافع التي كانت تجعل أيا من إخوته العاديين هؤلاء يتقبل هذا التعالي بكل رحابة صدر، ولا يترك فرصة أو مناسبة تمر دون أن يعبر عن ترحيبه واعتزازه به، كأن يسارع مثلا وبكل طيبة خاطر لتقديم مقعده في الحافلة لبيكاسو، وفي الحانة لرامبو، وفي المسرح لجوته، ودوره في الفرن لماكسيم غوركي، وفي الجمارك لساره برنار، وفي الدوائر الرسـمـيـة لـتـشـيـخـوف، وعلى إشارات المرور لهمنجواي، وفي العيادات الطبية لأينشتاين. ولكنه لا يستطيع أن يفهم أو يتفهم لماذا عليه هو أن يعطي مقعده في الباص والطائرة والمسرح والملاعب الرياضية ودوره في الطوابير الاستهلاكية والدوائر الرسمية والبعثات التعليمية والقروض المصرفية وعند الإشارات الضوئية والعيادات الطبية و«بالصرماية» لمن ليس متفوقاً في شيء، ينتمي، وبالمصادفة، لهذا.....أو ذاك أو إحـدى الـقـوى الدائرة في فلكه.
مع أنني رأيت بأم عيني هاتين اللتين سيأكلهـمـا الـتـلـفـزيـون وزيرا في بريطانيا بأحد مطاعم لندن يقف عند الباب مستنداً إلى إحدى العضائد مع زوجته العجوز وهو ينظر إلى ساعته بانتظار أن تفرغ إحدى الموائد. طبعاً لم أصدق عيني ولا أذني، ولكن عندما أكد لي مـضـيـفنا ذلك وقـال: هنا أو في أي بلد أوروبي، الوزير خارج مكتبه مثله مثل أي مواطن عادي، ولا أحد يعيـره انتباهاً. فقلت له: والله لو كان هذا في أي بلد عربي ودخل مسؤول أو شرطي إلى مثل هذا المطعم أو سواه ولم يجـد مـائـدة شـاغـرة لألقى بالزبائن كلهم في الحلة، وجلس مكانهم، هذا إذا بقي في الأصل زبائن، ولأقـيـم فـي الحـال جسر جوي بين المطبخ ومائدته، ولا نصرف جميع العاملين في المطعم لخدمته وتلبية طلباته وانتظار إشارة من أصبعه أو مسدسه أو خنجره، وكأنه أهم من كل أنباء وأحداث العالم. وعلى ماذا. والله لا أعلم!
على فلسطين التي استعادوها! على الوحدة العربية أو الإسلامية أو الإفريقية التي حققوها! على العلوم التي طوروها! أو السفن الفضائية التي أطلقوها!
1986*
* كاتب وشاعر ومسرحي سوري «1934 - 2006»