فهد أبو حميد
(ويبقى السؤال.. إذا وجدت الموهبة عند الشاعرين «شاعر قارئ» و«شاعر أمي» لمن تتجه بوصلة الشعر؟ ولمن تميل بوصلة الذائقة؟).
هكذا ختم الأخ الحبيب عبد العزيز بن علي النصافي مقاله المنشور على صفحة من جريدة «الوطن» في الأيام الأوائل من شهر يونيو 2022م، وكأنما أراد أن يستهل الصيف بسؤال أنضجه على تباريح الذكريات التي لا أقول إنها استغرقت المقال، وإنما طافت بخيال القارئ المتأمل ليجد نفسه -ولو من طرف خفي- شريكاً لكاتب المقال يقاسمه ذلك الزاد الوجداني في حضرة والد الكاتب الشيخ علي النصافي -رحمه الله.
لن أتحدث عن خطرات الروح التي ساورتني أثناء قراءة المقال، ولا سيما أنني أتفق مع الأخ عبد العزيز النصافي في شطر وافر من آرائه المبثوثة بين تلك الزَّخَّات العاطفية التي جادت بها ذكريات القرية وقاطنيها، وسأتخذ السؤال الذي جاء في خاتمة المقال منطلقاً لإثبات بعض الآراء الشخصية التي أبديها كلما احتدم نقاش حول الشعراء وصولاتهم تحت لواء الثقافة!
وأنا أكتب مقالي هذا مَسَحْتُ بيدي على صعيدٍ طهور من أصعدة الخيال فرأيتُ الأستاذ عبد العزيز النصافي (فيما يرى شاعر حالم) يشير إليَّ لننهض مَعاً فنكتب تفاصيل مشهد سينمائي يقتسم بطولته شخصيتان ليكون هذا المشهد استهلالاً لعمل مُطوَّل يتألف من عدة أجزاء، ذلك أنَّ خاتمة مقال صديقي العزيز أعادتني إلى مقال سبق لي أن كتبته تحت عنوان
(أيها الشاعر أريد أن أراك)، وهذا ما يحصل عندما يستدعي مشهد قصصي أحداثاً حصلت في جزء سابق من رواية إنسانية مُطوَّلة يرويها أبطالها كُلٌّ من زاوية رؤيته للأحداث الكبرى.
(أيها الشاعر أريد أن أراك) مقال منشور ويمكن العثور عليه بسهولة باستخدام محركات البحث، وقد كان مما جاء فيه (هل المطلوب من الشاعر في قصيدته أن يكون مثقفاً موسوعياً أم أنَّ المطلوب منه أن يكون شاعراً فحسب؟)، والمقال إجمالاً إلمام بذلك السجال التلقائي الأبدي الذي تفيض به القصائد (بين اللغة والثقافة)، من حيث رؤية النقاد ووصفهم للثقافة واللغة بأنهما جناحان في عداد أجنحة شتى تحلِّقُ بها ملائكة القصيدة، ولا أقول شياطينها!
أعود مرة أخرى إلى سؤال عبد العزيز النصافي لأعيد صياغته من زاوية مغايرة، فأقول هل تضمن الثقافة للشاعر أن يكتب قصيدة تستحق الرسوخ في وجدان قارئ من عموم القراء ناهيك عن الرصيد الشعري المتراكم في وجدان أمة بأسرها؟!
طرح الأسئلة من زوايا متفاوتة حول ثنائية (اللغة و الثقافة في الشعر) ليس من نوافل الكلام في موازين عاشق الشعر وطول التأمل في هذه الثنائية يفضي بالمرء إلى رؤى وأطوار فكرية تراكمية يأخذ الناس منها مواقف شتى ما بين مؤتلف ومختلف ولأنَّ مقالي هذا يأتي على هيئة تعقيب على مقال الأخ الحبيب الأديب عبد العزيز النصافي، فسأبدي في الفقرات اللاحقة
وجهة نظر شخصية قد يستشف منها القارئ إجابة مواربة تختلس النظرات إلى سؤال الخاتمة في مقال صديقي العزيز.
أقول إنه ما من فن إلا وله مادته الخام ومادة الشعر هي اللغة بَيدَ أنَّ العُقدة العصية على الحل في رأيي الشخصي هي أنَّ اللغة ذاتها تأبى الدوران في هذا الفلك النقدي المحض، لأنَّ الحقيقة أنَّ اللغة أشد ارتباطاً بصميم الإنسانية، فهي ليست عنصراً شعرياً فحسب بل هي
(سمة إنسانية شديدة الحساسية) وكلما ازداد استيعاب الشاعر لهذه الحقيقة عاد هذا الاستيعاب على تأمله وخياله وهواجسه، حينما يريد انتقاء مفردة ليوظفها في سياق شعري خالد شأنه في ذلك شأن الفارس الذي يتعهَّد خيله بالرعاية والمران، وهذا الأمر في رأيي الشخصي ينطبق على الشاعر، سواء كان ممن يكتب الفصحى أو الشعبية، و سواء كان هذا الشاعر أستاذاً جامعياً معتكفاً جُلَّ وقته في مكتبته أو أعرابياً لا يعشق شيئاً عشقه لإبله، لأن إدراك الشاعر الموهوب لسحر المفردة هو في جوهره نفحة غريزية خالصة وإلا لما كان شاعراً أصلاً!
أعلم أنَّ من يسرف في رهانه على ثقافة الشاعر قد يَشمَئِزّ من كلامي، ولكن الحقيقة في رأيي أنَّ ثقافة الشاعر هي شأنه الشخصي أما قصيدته الغَرَّاء فهي ما يوشك أنْ يكون إرثاً تفخر به أجيال متعاقبة، وفي تعبير آخر أقول إنني أبحث في القصيدة عن ذات الشاعر، ولا أبحث عن مكتبته!.
الشاعر الحقيقي في رأيي يظهر في قصيدته لأنَّ (الذات الشاعرة) لا تقبل أن نكتبها بالحبر السِّرِّيّ، فهي بطبيعتها (ذات صاخبة)، وصخبها ليس من فراغها بل من احتشاد الشعور والعواطف والتجارب الحيوية، هذه الذات لا يحملها مثل (اللغة الشعرية) ذات البعد الإنساني، إنها اللغة المثخنة التي تضبح ضبحاً في ميادين تشعلها متاعب الحياة ومعاركها، حتى إذا سقط الفارس ذات كبوة نهض حصانه نهضة فارهة ليحول بين فارسه ومصارع السوء.
أما ما عدا ذلك فإنني أشعر أنَّ حجاباً صفيقاً يحول دون استمتاعي بقراءة القصيدة التي يُذَكِّرني كل بيت فيها بمقولة فلسفية أو قصة أسطورية أو حادثة تاريخية أو غارة ساهرة على صفحة من كتاب إلا إذا تمكَّن الشاعر من توظيف هذه العناصر في سياق ملائم لا إسراف فيه، بحيث (لا تموت الذات الشاعرة تحت ركام الكتب)، وبحيث (لا يجد النشاز موطئاً بين رباعية اللغة والذات والخيال والحياة).
أما أكثر ما يجنح بالقصيدة خارج المضمار فهو علو النبرة الخطابية التي تبتذل النص الشعري حتى توشك أن تُعَلّقَهُ شعاراً على لافتات الغوغاء، وهذا ما نجده حتى عند بعض الأسماء الجماهيرية الكبرى، ولا أريد أنْ أضرب الأمثلة هنا لأسباب لا تخفى على لبيب.
ختاما أقول إنَّ ما بقي رهينَ خاطري حول (الذات واللغة الشاعرتين) أضعاف ما أبديته في مقالي إلا أنَّ (سُؤراً مِنْ حيرة تَستَفِزُّ) هو أجدى ما يتركه كاتب في ختام مقالٍ عن الشِّعر!.
هكذا ختم الأخ الحبيب عبد العزيز بن علي النصافي مقاله المنشور على صفحة من جريدة «الوطن» في الأيام الأوائل من شهر يونيو 2022م، وكأنما أراد أن يستهل الصيف بسؤال أنضجه على تباريح الذكريات التي لا أقول إنها استغرقت المقال، وإنما طافت بخيال القارئ المتأمل ليجد نفسه -ولو من طرف خفي- شريكاً لكاتب المقال يقاسمه ذلك الزاد الوجداني في حضرة والد الكاتب الشيخ علي النصافي -رحمه الله.
لن أتحدث عن خطرات الروح التي ساورتني أثناء قراءة المقال، ولا سيما أنني أتفق مع الأخ عبد العزيز النصافي في شطر وافر من آرائه المبثوثة بين تلك الزَّخَّات العاطفية التي جادت بها ذكريات القرية وقاطنيها، وسأتخذ السؤال الذي جاء في خاتمة المقال منطلقاً لإثبات بعض الآراء الشخصية التي أبديها كلما احتدم نقاش حول الشعراء وصولاتهم تحت لواء الثقافة!
وأنا أكتب مقالي هذا مَسَحْتُ بيدي على صعيدٍ طهور من أصعدة الخيال فرأيتُ الأستاذ عبد العزيز النصافي (فيما يرى شاعر حالم) يشير إليَّ لننهض مَعاً فنكتب تفاصيل مشهد سينمائي يقتسم بطولته شخصيتان ليكون هذا المشهد استهلالاً لعمل مُطوَّل يتألف من عدة أجزاء، ذلك أنَّ خاتمة مقال صديقي العزيز أعادتني إلى مقال سبق لي أن كتبته تحت عنوان
(أيها الشاعر أريد أن أراك)، وهذا ما يحصل عندما يستدعي مشهد قصصي أحداثاً حصلت في جزء سابق من رواية إنسانية مُطوَّلة يرويها أبطالها كُلٌّ من زاوية رؤيته للأحداث الكبرى.
(أيها الشاعر أريد أن أراك) مقال منشور ويمكن العثور عليه بسهولة باستخدام محركات البحث، وقد كان مما جاء فيه (هل المطلوب من الشاعر في قصيدته أن يكون مثقفاً موسوعياً أم أنَّ المطلوب منه أن يكون شاعراً فحسب؟)، والمقال إجمالاً إلمام بذلك السجال التلقائي الأبدي الذي تفيض به القصائد (بين اللغة والثقافة)، من حيث رؤية النقاد ووصفهم للثقافة واللغة بأنهما جناحان في عداد أجنحة شتى تحلِّقُ بها ملائكة القصيدة، ولا أقول شياطينها!
أعود مرة أخرى إلى سؤال عبد العزيز النصافي لأعيد صياغته من زاوية مغايرة، فأقول هل تضمن الثقافة للشاعر أن يكتب قصيدة تستحق الرسوخ في وجدان قارئ من عموم القراء ناهيك عن الرصيد الشعري المتراكم في وجدان أمة بأسرها؟!
طرح الأسئلة من زوايا متفاوتة حول ثنائية (اللغة و الثقافة في الشعر) ليس من نوافل الكلام في موازين عاشق الشعر وطول التأمل في هذه الثنائية يفضي بالمرء إلى رؤى وأطوار فكرية تراكمية يأخذ الناس منها مواقف شتى ما بين مؤتلف ومختلف ولأنَّ مقالي هذا يأتي على هيئة تعقيب على مقال الأخ الحبيب الأديب عبد العزيز النصافي، فسأبدي في الفقرات اللاحقة
وجهة نظر شخصية قد يستشف منها القارئ إجابة مواربة تختلس النظرات إلى سؤال الخاتمة في مقال صديقي العزيز.
أقول إنه ما من فن إلا وله مادته الخام ومادة الشعر هي اللغة بَيدَ أنَّ العُقدة العصية على الحل في رأيي الشخصي هي أنَّ اللغة ذاتها تأبى الدوران في هذا الفلك النقدي المحض، لأنَّ الحقيقة أنَّ اللغة أشد ارتباطاً بصميم الإنسانية، فهي ليست عنصراً شعرياً فحسب بل هي
(سمة إنسانية شديدة الحساسية) وكلما ازداد استيعاب الشاعر لهذه الحقيقة عاد هذا الاستيعاب على تأمله وخياله وهواجسه، حينما يريد انتقاء مفردة ليوظفها في سياق شعري خالد شأنه في ذلك شأن الفارس الذي يتعهَّد خيله بالرعاية والمران، وهذا الأمر في رأيي الشخصي ينطبق على الشاعر، سواء كان ممن يكتب الفصحى أو الشعبية، و سواء كان هذا الشاعر أستاذاً جامعياً معتكفاً جُلَّ وقته في مكتبته أو أعرابياً لا يعشق شيئاً عشقه لإبله، لأن إدراك الشاعر الموهوب لسحر المفردة هو في جوهره نفحة غريزية خالصة وإلا لما كان شاعراً أصلاً!
أعلم أنَّ من يسرف في رهانه على ثقافة الشاعر قد يَشمَئِزّ من كلامي، ولكن الحقيقة في رأيي أنَّ ثقافة الشاعر هي شأنه الشخصي أما قصيدته الغَرَّاء فهي ما يوشك أنْ يكون إرثاً تفخر به أجيال متعاقبة، وفي تعبير آخر أقول إنني أبحث في القصيدة عن ذات الشاعر، ولا أبحث عن مكتبته!.
الشاعر الحقيقي في رأيي يظهر في قصيدته لأنَّ (الذات الشاعرة) لا تقبل أن نكتبها بالحبر السِّرِّيّ، فهي بطبيعتها (ذات صاخبة)، وصخبها ليس من فراغها بل من احتشاد الشعور والعواطف والتجارب الحيوية، هذه الذات لا يحملها مثل (اللغة الشعرية) ذات البعد الإنساني، إنها اللغة المثخنة التي تضبح ضبحاً في ميادين تشعلها متاعب الحياة ومعاركها، حتى إذا سقط الفارس ذات كبوة نهض حصانه نهضة فارهة ليحول بين فارسه ومصارع السوء.
أما ما عدا ذلك فإنني أشعر أنَّ حجاباً صفيقاً يحول دون استمتاعي بقراءة القصيدة التي يُذَكِّرني كل بيت فيها بمقولة فلسفية أو قصة أسطورية أو حادثة تاريخية أو غارة ساهرة على صفحة من كتاب إلا إذا تمكَّن الشاعر من توظيف هذه العناصر في سياق ملائم لا إسراف فيه، بحيث (لا تموت الذات الشاعرة تحت ركام الكتب)، وبحيث (لا يجد النشاز موطئاً بين رباعية اللغة والذات والخيال والحياة).
أما أكثر ما يجنح بالقصيدة خارج المضمار فهو علو النبرة الخطابية التي تبتذل النص الشعري حتى توشك أن تُعَلّقَهُ شعاراً على لافتات الغوغاء، وهذا ما نجده حتى عند بعض الأسماء الجماهيرية الكبرى، ولا أريد أنْ أضرب الأمثلة هنا لأسباب لا تخفى على لبيب.
ختاما أقول إنَّ ما بقي رهينَ خاطري حول (الذات واللغة الشاعرتين) أضعاف ما أبديته في مقالي إلا أنَّ (سُؤراً مِنْ حيرة تَستَفِزُّ) هو أجدى ما يتركه كاتب في ختام مقالٍ عن الشِّعر!.