خالد العضاض

تعتبر الفتوى أحادية الرأي فقهيًا، الأرضية التي تعزز وتقوي «فوضى الاحتساب»، أحد أهم أدوات تجميع الناس تحت مظلة التدين الجمعي، إذ إن المسلم اليوم لا يسيره الدليل أو النص الذي يقرره الشارع الحكيم مرجعيةً للحلال والحرام، وإنما تسيره الفتوى، والاتكاء على الفتوى هو بمثابة تحول بطريقة ما إلى اعتماد محاولات التفسير البشري للنص كتشريع، والتي تصيب وتخطئ في تلمس مراد الشارع وقصده من هذا النص أو ذاك.

ويمكن اعتبار الفتوى بمثابة الإضافات التي وفرتها التفاسير المختلفة للدين، والمؤسسة على الفهم البشري، وما يعتري هذا الفهم من نقائص ومثالب، ويتضح ذلك جليًا من خلال تضارب الأحكام والنتائج في بحث المسائل الشرعية المختلفة، حتى أنه يندر وجود مسألة فقهية ليس فيها خلاف، أو مجموعة من الآراء المتقاطعة، وبناء على هذا فإنه يجب ألا يلزم أحدٌ بفتوى أحدٍ، تحت أي ظرف مهما كان، فالفتوى معلمة، وليست ملزمة، ويجب ترك حرية التدين مفتوحة ومكفولة لكل أحد، ومتى ما تم اعتماد الفتوى كتشريع، سنقع حتمًا في «فوضى الفتوى» كما وقعنا في «فوضى الاحتساب».

وبتأمل بسيط لما يقوم به النظام الرسمي للدولة، نجد أنه لا يضع أيَ نوعٍ من العقوبات على فتاوى كثيرة؛ ولم نسمع يومًا أن ثمة حكما قضائيا نفذ على ما تعتبره بعض الفتاوى منكرًا، كالفتاوى في حكم الموسيقى، واللحية، ووجه المرأة، لأن حرية التدين وفرديته تصب في مصلحة البلاد والعباد، إضافة إلى أن فردية التدين كفيلة بنزع فتيل الاحتقان المجتمعي، وغلق لباب التدخل في حياة الآخرين وشؤونهم، وهذا ما يضع أهمية كبرى في حياة السعودي اليوم؛ لمسألة تفكيك التدين الجماعي، وبيان خطره وأخطائه.

وعلى صعيد آخر، يعمد بعض المفكرين والمثقفين، وبعض علماء الدين الذين يعتبرون دعاة للتسامح والاعتدال، إلى محاولة تقديم نسخة مزينة من إسلام اليوم، ويصرون على أن هذا الأمر أو ذاك ليس من الإسلام، وهذه المسألة أو تلك لا دليل عليها، أو أنها فهمت بطريقة خاطئة، أو غير ذلك، وهذا في ظني تحجير واسع، فمسألة الاجتهاد في تخليص إسلام اليوم من الإضافات والقراءات المختلفة، عملية غير ممكنة البتة، فما تضخم به الفقه الإسلامي من بداية تدوين العلوم الشرعية وحتى اليوم، هي عملية تراث وفكر متراكم عبر قرون يستحيل التخلص منه، ورميه خلفنا بكل بساطة، عن طريق إيجاد نسخة منقحة من إسلام التراث، والذي بدأ بالتضخم في العهد الأموي، إذ بدأت في ذلك العهد الصياغة الأولية للعقائد الإسلامية، واستمرت عمليات التراكمات عليها ومحاولات الحذف والإضافة والتي كونت بذاتها مذاهب عقدية مستقلة حتى نهاية العصر العباسي تقريبًا، أمَّا تكوَّن المدارس الفقهية فبدأ في الدولة العباسية التي تشكَّلت في زمانها المذاهب الفقهية بما فيها مذهب جعفر الصادق، وحتى تلك المذاهب التي انقرضت ولم يتبقَ لها أتباع، ونشطت كذلك عمليات التنظير الأصولي التي قادها الشافعي في «الرسالة» وما بعدها من تصانيف، كل هذا بعد مضي ما يقارب القرن من الزمان على وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم، والذي ترك دينًا واضحًا بسيطًا ميسرًا سمحًا، عقَّده وسوده الوعاظ والفقهاء ومن أطلق عليهم لقب علماء الشريعة، بما ليس منه، حتى أضحت في النهاية حالة تدينية لا انفكاك منها.

وأي اجتهاد في عملية إعادة قولبة التدين بطرح الإضافات المتراكمة على أصوله، هي عملية لا ثمرة لها ولا طائل من ورائها، والأمر المثمر، هو أن ندع الناس وشأنهم بأن يتعبدوا ربهم بما تمليه عليهم قلوبهم وعقولهم، وأن نضع الضوابط الصارمة لضمان أمن وسلم المجتمع، وعدم تصادم هذه التدينات وتداخلها خارج إطار الحوار الفكري والعلمي داخل الأروقة الثقافية والأكاديمية فحسب، ما لم تؤثر على السلم الاجتماعي، والأمن الوطني، وهنا يجب التدخل بقوة السلطان، وردع كل من يحاول المساس بلحمة المجتمع وتماسك الوطن، والخلاصة أن ندع كلًا وشأنه مع تدينه، فمن أراد التدين وفقًا للمذاهب والاتجاهات المختلفة فسوقها مفتوح، ومن أراد أن يستبرئ لدينه ويطلب أقرب نسخة من الإسلام تلامس ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم، فهذا شأنه، المهم ألا نحاول القيام بما يمكن أن أطلق عليه: «عملية تنظيف الدين وتقليم الزوائد الطارئة عليه»، كما أنَّ أي جهد واجتهاد في سبيل الإصلاح الديني يتم، سواءً بجهود أفراد أو مؤسسات أو دول، هو أمر رائع ولا تثريب عليه، وربما سهَّل على الناس حياتهم، ولكن الشرط الرئيس والأصيل في هذه الأعمال ألا يجبر على التمذهب بها أحد من الناس، وبهذا يكون أمام الفرد مجموعة من الخيارات والاجتهادات والمذاهب، إن شاء اتبع أقربها إليه، وإن شاء تركها كلها واجتهد لنفسه إن ملك آلة الاجتهاد.

ويمكن البدء في هذه المشاريع الإصلاحية، من مشروع جمع ودراسة الأحاديث المشتركة بين الطوائف والمذاهب الإسلامية قاطبة، والتي اتفقوا على ثبوتها وإعمالها، وهي لن تتجاوز بحال من الأحوال مئات قليلة من الأحاديث، ثم الانتقال إلى مشروع دراسة ثبوت ودلالة الأحاديث التي تعتبر فيصلًا في إثبات بعض الأحكام الشرعية دون بعض لو صحت، أما مشروع كل المشاريع في هذا الصدد، فهو ما أعلن عنه أمير الحلم السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلته مع مجلة «ذا أتلانتيك»، حول توثيق وإثبات الحديث النبوي، وطريقة التعامل معه علميًا ومعرفيًا، وقال: (وهذا ما نحاول تحديده ونشره؛ لتثقيف العالم الإسلامي حول طريقة استخدام الحديث، وهذا سيُحدث فارقًا كبيرًا، ويحتاج إلى الوقت، ونحن في المراحل النهائية، إنه مُجرد توثيق للحديث بالطريقة الصحيحة)، ومثل هذا المشروع سيجعل من السهل على الفرد الانتقال من مرحلة التدين بالفتوى إلى التدين بالدليل، إذ إنه سيكون أمام نص مثبت، واضح الدلالة، إضافة إلى النص القرآني الكريم، مما يجعله يتبع قلبه وعقله في اختيار الطريق إلى ربه وهو مطمئن النفس، مرتاح البال، وهذا المشروع كفيل بنزع فتيل التطرف والإرهاب من العالم، فلا يجد أي متطرف أو إرهابي ساحة يمارس فيها تطرفه وإرهابه.