منصور الرحباني

من البداية كانت لنا ميول فنية. كانت تربيتنا العائلية تربية قاسية متزمتة. فقد كان الوالد يخاف من اختلاطنا بالأولاد الآخرين، ولذلك كان يعزلنا طيلة النهار في «علية» قرب مقهى فوار انطلياس الذي كان يديره. كان عاصي قد سبقني إلى هذه الدنيا بسنة وأحد عشر شهرا، وفي هذه «العلية» كان «يخرطش» فيخترع أشخاصا لا يشيخون، أو بلدانا ليس فيها حكومات. ونجلس معا لكي نحكي قصص هؤلاء الأشخاص الوهميين، نضع لهم أسماء، ونروي سيرا، ونتجادل كثيرا حول تفاصيل صغيرة من نوع:

هل يجوز أن يكون عندهم عربات أو سيارات أم لا؟ وكان يصر على أن يكون لديهم عربات تجرها الخيل، وهكذا.

كنا نتسلى كي نتغلب على وحدة قاسية فرضها علينا الوالد، وكان رأس عاصي «يشرقط» كل يوم بألف فكرة مبتكرة، وعندما وجدنا أنفسنا ذات يوم تلميذين في مدرسة الراهبات، بدا عاصي حريصا على أن يبدو مرتبا، ولكنه بدأ يفقد خفة الدم، يسألونه: ماذا تريد أن تعمل في المستقبل؟

فيجيب بأنه يريد أن يكون مثل والده.

بدأ الوالد حياته «جواهرجيا» قبل أن يدير مقهى فوار انطلياس. وقد تغيرت الظروف نتيجة الحرب العالمية الأولى عندما وجد كثيرون أنفسهم بلا عمل، ولكن الوالد عمل لفترة «شيخ شباب»، حمل مسدسا ونتيجة ممارسة مثل هذه الحياة حكم عليه بالإعدام فهرب من بيروت، وهو في الأساس بيروتي، وجاء إلى انطلياس، وهي في ذاك الوقت من أعمال متصرفية لبنان، وأدار فيها «الفوار».

إذن كان عاصي يريد أن يكون مثل الوالد. أما أنا فكنت أجيب، إذا ما سألوني ماذا أريد أن أفعل في المستقبل: تمساح.. جرذ، أو أية إجابة غير معقولة أو غير منطقية.

كان عاصي أنيقا في تلك الفترة المبكرة ـ في حين أنني كنت سمينا جداـ ولذلك لم يهتم أحد بأن يلعب معي.

كانت لعبة «الغميضة» هي اللعبة الدارجة يومهاـ وهي لعبة تستدعي الركض ولذلك لم يكن بإمكاني أن أمارسها لأنه لم يكن بإمكاني أن أركض كما ينبغي إلا أنهم كثيرا ما أخذوني معهم، إكراما لأخي الذي كان «زعيما» بينهم.

توقع الكثيرون لعاصي أن يكون في المستقبل شاعرا أو فنانا، في حين قال آخرون إن منصور لابد أن يكون مستقبلا قاطع طريق.. وكانت كل المظاهر تدل على أنني متجه حتما إلى السجن. وفي سيرتي الذاتية مشاكل كثيرة، في حين كانت سيرة عاصي مختلفة تماما.

وفي اللعب كان عاصي متقدما دائما، كما في سواه، وإلى زمن غير بعيد، وحتى بعد أن أصبحنا مشهورين، كنا إذا اختلفنا في الرأي حول هذه الجملة الموسيقية أو الشعرية كانت جدتي لوالدتي عندما يتناهى إليها شجارنا تقول لي: أخوك أكبر منك، اسمع منه «عالعمياني».

كان عاصي مجتهدا في دروسه في حين أنني لم أكن هذا المجتهد. كانوا إذا أوصلونا إلى المدرسة في الصباح الباكر أهرب وأنا في طريقي إليها لأتفيأ بظل شجرة مقطوعة موضوعة في قنطرة، من السابعة صباحا إلى الظهر، وعندما أشاهد الطلبة عائدين إلى بيوتهم أعود معهم، ولم يكن عاصي يشكوني إلى والدي، وكان دائما مثاليا في انتظامه واجتهاده. كنت عندما أستمع إلى الشعر وأنا في الصف أحدق من النافذة نحو آفاق لا أعرفها، كان الشعر شديد التأثير في نفسي.

في مرحلة لاحقة كان للوالد مقهى صيفي اسمه «عين الينابيع»، وكان برغم قساوته حنونا رقيقا أحيانا، فكان كل ليلة يجلس ويعزف أمامنا على آلة هي البزق. كان يعزف ويغني أغاني تراثية قديمة. وبدأ عاصي سرا يتعلم العزف على هذه الآلة، وعندما كان يجيد عزف «دقة» معينة سمعها من الوالد يفرح فرحا عظيما، وعندما كان الوالد يراه يعزف على هذه الآلة كان يزجره. كنا أنا وعاصي نعمل كخادمين في المقهى.

بعد ذلك بدأ يدرس الموسيقى في الكونسرفاتوار. ثمة مرحلة مهمة في حياة عاصي تتمثل بقدوم الأب بولس الأشقر إلى دير مار إلياس في أنطلياس حيث أسس جوقة لتعليم التراتيل الدينية والكورال.

أنا انضممت إلى الجوقة في حين تعذر دخول عاصي لاحتجاجهم على صوته، فكان يقف بعيدا ويراقب ما نفعله وهو مكتئب، إلى أن بدأ الأب بولس الأشقر يشرح لنا ذات يوم نظرية بُعد موسيقي اسمها Tetracorde، وعندما عجزنا جميعا عن فهمها أو استيعابها تدخل عاصي وهو يستمع من بعيد، ليقول:

أنا أشرحها لهم.. فقال له الأب بولس: إذا عرفت فإنك ستدخل الجوقة..

ودخل وتعلم ولم يبق من كل تلك الجوقة ممن اتجه إلى الموسيقى والفن سوى عاصي وأنا.

1997*

* شاعر وموسيقي لبناني «1925 - 2009».