يعتقد جانب كبير من الرأي العام في المنطقة العربية أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تخلّت عن أوكرانيا وتركتها وحدها في مواجهة الآلة الحربية الروسية.
الجانب الآخر عبّر عن تأييد للغزو الروسي، إمّا إعجابًا بدولة كبرى تتحدى الغرب، أو كرهًا وتشفيًا بالسياسات الأمريكية والغربية حيال «قضايا العرب والمسلمين».
كلا الرأيين جزئي، فالواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو، ولا شكّ أن التزام الحكومات العربية مواقف رمادية/ حيادية هو ما أدّى إلى اختلاط مفاهيم الأفراد والجماعات في تقويم الحرب ومجرياتها.
وحتى تأييد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة أو رفضه أو الامتناع عن التصويت لم تكن حاسمة في توضيح مرامي المواقف الحكومية، رغم أن الحرب لم تكن مباغتة، بل جاءت بعد حشد عسكري غير مألوف وأزمة وتوتّر ديبلوماسيين ساهما في تحضير العالم لـ «حتمية» الحرب.
لا يمكن اعتبار رغبة الدول العربية في البقاء على الحياد بين طرفي الحرب لا خيارًا أو خيارًا خاطئًا، وهذا ما تراءى من مداولات مجلس الجامعة العربية، على الرغم من اختلاف في المقاربات.
كذلك لا يمكن تفسير الحرص على المصالح مع الدول الغربية وروسيا والصين في آنٍ بدافع الخوف فقط، فهذا موقف غالبية دول العالم التي لا ترى أن حرب أوكرانيا «حربها» وترفض انعكاساتها عليها، وهذا أيضًا ما تشهره الدول الـ 30 في حلف الأطلسي تبريرًا لعدم تدخّلها المباشر في أوكرانيا لمحاربة روسيا وتجنّبًا «لإشعال حرب عالمية» ربما يسعى اليها قيصر الكرملين لفرض شروطه وإرادته على أوكرانيا وجاراتها.
وإذ تُستعاد الحرب الباردة حاليا، يمكن التذكير بأنها دفعت في أوج زخمها خمسًا وعشرين دولة الى تأسيس حركة عدم الانحياز وتشكيل رأي عالمي ثالث وإنْ غير مؤثّر بين الاستقطابين الغربي والشرقي. لعل الروح تعود الآن إلى هذه الحركة التي لا تزال قائمة وتعدّ 118 دولة، بما فيها كل الدول العربية. وعلى الرغم من أن عددًا كبيرًا من أعضائها مشكوك بالتزامه أهم أهدافها (احترام حقوق الإنسان، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية لأي دولة)، إلا أن غالبيتها العظمى تبقى متمسّكة بمبادئ الأمم المتحدة (احترام سيادة الدول وعدم الاعتداء عليها، وتقديم الحلول السلمية على غيرها من الحلول إذا نشبت خلافات بين الدول).
وبهذا المنحى أيّد مجلس الجامعة العربية الجهود الرامية إلى حلّ الأزمة الروسية - الأوكرانية «من خلال الحوار والدبلوماسية، وبما يضمن أمن شعوب المنطقة وسلامتها».
غير أن تباينات عربية ظهرت مع بداية الغزو الروسي وعند التصويت على القرار الأممي، وقد تظهر لاحقًا إذا طالت الأزمة واشتدّ الاستقطاب مع استمرار العقوبات على روسيا وتأثر بعض الدول العربية بها، فضلاً عن احتمال تحرك الصين لاختراق العقوبات على نطاق واسع. وتتفاوت التباينات بحسب انعكاس الصراع الدولي على الأوضاع الداخلية لهذا البلد أو ذاك وخشيته من التعرض لأزمة غذائية بسبب النقص المتوقّع في إمدادات الحبوب والطاقة، أو صعوبات في إدارة استثمارات في روسيا واستكمال صفقات معها.
تعدّدت نماذج المقاربة العربية للأزمة، فأمكَنَ مثلاً تسجيل مسارعة الحكومة الليبية في طرابلس إلى إدانة روسيا، انطلاقًا من أن «الجيش الوطني» في شرق ليبيا يعتمد على قوات «فاغنر» الروسية، وبطبيعة الحال لم تحرص سلطات الشرق على إعلان موقف من الحرب، حاذية حذو مصر المتمترسة وراء «مبادئ القانون الدولي» التي تحرّم الحروب عمومًا. ولم تجد الجزائر سببًا للخروج من اصطفافها التقليدي إلى جانب روسيا، فيما اختار المغرب التغيّب عن تصويت الجمعية العامة مراعاةً لروسيا وتنبيهًا لواشنطن بأن ثمة تراخيًا في تفعيل اعترافها بسيادته على الصحراء الغربية. أما عسكريّو السودان، الذين لمسوا أن الموقف الغربي جمّدهم في ورطة انقلابهم ولم يسهّل لهم استعادة نظامهم، فيحاولون انتزاع خشبة خلاص روسية، لذا لم تتسبب الأزمة بتأجيل زيارة محمد حمدان دقلو/ «حميدتي» (نائب رئيس المجلس السيادي) لموسكو سواء لمتابعة تجارته (الخاصة؟!) بالذهب أو لاستكمال البحث في إقامة قاعدة روسية في السودان.
وفي السياق نفسه، أثبت نظام دمشق تبعيّته لموسكو مصوّتًا لمصلحتها، ولو أخذ بتبعيته الأخرى لإيران لامتنع عن التصويت، في المقابل كان من الطبيعي أن تذكّر المعارضة بـ «الاحتلال الروسي» لسورية باعتباره مؤشرًا لما ينتظر أوكرانيا. لكن امتناع العراق عن التصويت شكّل تأكيدًا لنأيه بالنفس عن الصراعات الخارجية على الرغم من معاناته الشديدة من التدخّل الإيراني في شؤونه. أما اعتماد لبنان «رسميًا» سياسة النأي بالنفس فلم تمنعه من تأييد قرار دولي يدين «العدوان» الروسي على أوكرانيا، أسوة بموقفه من أي عدوان إسرائيلي، ولو أن ذلك أثار جدلًا داخليًا حول «إدانة» مستبطنة للدور الإيراني على أراضيه.
اللافت في مواقف الدول العربية الأساسية أنها متوافقة حيال حرب أوكرانيا، على عكس ما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة سابقًا. صحيح أن التنافس على الهيمنة لا يزال في أساس التنافس بين التكتلات الدولية الكبرى، إلا أن الصراع الحالي بين الغرب والشرق مختلف هذه المرّة بأسبابه ودوافعه وظروفه. إذ لا تغلب عليه التناقضات العقائدية (شيوعية وليبرالية) بل الهواجس الأمنية والاقتصادية، في حين أن الخيارات السياسية (ديمقراطية، حريات، حقوق الإنسان...) تُستخدم كأدوات ضغط في خدمة المصالح وتؤدي إلى خلافات بين أصدقاء/ حلفاء مزمنين وإلى تقاربات بين خصوم مفترضين.
على قاعدة احترام سيادة الدول ورفض استخدام القوة وسيلة لتغيير الأنظمة والحدود، كذلك تغليب الحلول السلمية، بدت المواقف منسجمة بين مصر والسعودية والإمارات وسائر دول الخليج التي نسجت علاقات ومصالح متنوعة مع الأقطاب العالمية الثلاثة، ويهمّها أن تحافظ على حيادها في أي صراع دولي يلامس خطر الحرب العالمية، خصوصا أن المجتمع الدولي لم يقدم أي مساهمة إيجابية في حل أي من القضايا العربية (الصراع مع إيران، الاحتلال الإسرائيلي، حروب الربيع العربي، سد النهضة...). ليس واضحًا كيف ستنتهي حرب أوكرانيا أو الوضع الدولي الذي ستفضي إليه، غير أن اللحظة الدولية السانحة لشيء من استقلالية الموقف العربي ينبغي أن تكون حافزًا لاستعادة القرار والدور العربيين من شتاتهما في منافسات دول إقليمية ودولية. فالحياد كما يتبدى الآن يعكس مسؤولية وطنية وعربية، لكن إذا احتدم الصراع الدولي فقد يغدو صعبًا وسيكون له ثمن.
*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»
الجانب الآخر عبّر عن تأييد للغزو الروسي، إمّا إعجابًا بدولة كبرى تتحدى الغرب، أو كرهًا وتشفيًا بالسياسات الأمريكية والغربية حيال «قضايا العرب والمسلمين».
كلا الرأيين جزئي، فالواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو، ولا شكّ أن التزام الحكومات العربية مواقف رمادية/ حيادية هو ما أدّى إلى اختلاط مفاهيم الأفراد والجماعات في تقويم الحرب ومجرياتها.
وحتى تأييد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة أو رفضه أو الامتناع عن التصويت لم تكن حاسمة في توضيح مرامي المواقف الحكومية، رغم أن الحرب لم تكن مباغتة، بل جاءت بعد حشد عسكري غير مألوف وأزمة وتوتّر ديبلوماسيين ساهما في تحضير العالم لـ «حتمية» الحرب.
لا يمكن اعتبار رغبة الدول العربية في البقاء على الحياد بين طرفي الحرب لا خيارًا أو خيارًا خاطئًا، وهذا ما تراءى من مداولات مجلس الجامعة العربية، على الرغم من اختلاف في المقاربات.
كذلك لا يمكن تفسير الحرص على المصالح مع الدول الغربية وروسيا والصين في آنٍ بدافع الخوف فقط، فهذا موقف غالبية دول العالم التي لا ترى أن حرب أوكرانيا «حربها» وترفض انعكاساتها عليها، وهذا أيضًا ما تشهره الدول الـ 30 في حلف الأطلسي تبريرًا لعدم تدخّلها المباشر في أوكرانيا لمحاربة روسيا وتجنّبًا «لإشعال حرب عالمية» ربما يسعى اليها قيصر الكرملين لفرض شروطه وإرادته على أوكرانيا وجاراتها.
وإذ تُستعاد الحرب الباردة حاليا، يمكن التذكير بأنها دفعت في أوج زخمها خمسًا وعشرين دولة الى تأسيس حركة عدم الانحياز وتشكيل رأي عالمي ثالث وإنْ غير مؤثّر بين الاستقطابين الغربي والشرقي. لعل الروح تعود الآن إلى هذه الحركة التي لا تزال قائمة وتعدّ 118 دولة، بما فيها كل الدول العربية. وعلى الرغم من أن عددًا كبيرًا من أعضائها مشكوك بالتزامه أهم أهدافها (احترام حقوق الإنسان، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية لأي دولة)، إلا أن غالبيتها العظمى تبقى متمسّكة بمبادئ الأمم المتحدة (احترام سيادة الدول وعدم الاعتداء عليها، وتقديم الحلول السلمية على غيرها من الحلول إذا نشبت خلافات بين الدول).
وبهذا المنحى أيّد مجلس الجامعة العربية الجهود الرامية إلى حلّ الأزمة الروسية - الأوكرانية «من خلال الحوار والدبلوماسية، وبما يضمن أمن شعوب المنطقة وسلامتها».
غير أن تباينات عربية ظهرت مع بداية الغزو الروسي وعند التصويت على القرار الأممي، وقد تظهر لاحقًا إذا طالت الأزمة واشتدّ الاستقطاب مع استمرار العقوبات على روسيا وتأثر بعض الدول العربية بها، فضلاً عن احتمال تحرك الصين لاختراق العقوبات على نطاق واسع. وتتفاوت التباينات بحسب انعكاس الصراع الدولي على الأوضاع الداخلية لهذا البلد أو ذاك وخشيته من التعرض لأزمة غذائية بسبب النقص المتوقّع في إمدادات الحبوب والطاقة، أو صعوبات في إدارة استثمارات في روسيا واستكمال صفقات معها.
تعدّدت نماذج المقاربة العربية للأزمة، فأمكَنَ مثلاً تسجيل مسارعة الحكومة الليبية في طرابلس إلى إدانة روسيا، انطلاقًا من أن «الجيش الوطني» في شرق ليبيا يعتمد على قوات «فاغنر» الروسية، وبطبيعة الحال لم تحرص سلطات الشرق على إعلان موقف من الحرب، حاذية حذو مصر المتمترسة وراء «مبادئ القانون الدولي» التي تحرّم الحروب عمومًا. ولم تجد الجزائر سببًا للخروج من اصطفافها التقليدي إلى جانب روسيا، فيما اختار المغرب التغيّب عن تصويت الجمعية العامة مراعاةً لروسيا وتنبيهًا لواشنطن بأن ثمة تراخيًا في تفعيل اعترافها بسيادته على الصحراء الغربية. أما عسكريّو السودان، الذين لمسوا أن الموقف الغربي جمّدهم في ورطة انقلابهم ولم يسهّل لهم استعادة نظامهم، فيحاولون انتزاع خشبة خلاص روسية، لذا لم تتسبب الأزمة بتأجيل زيارة محمد حمدان دقلو/ «حميدتي» (نائب رئيس المجلس السيادي) لموسكو سواء لمتابعة تجارته (الخاصة؟!) بالذهب أو لاستكمال البحث في إقامة قاعدة روسية في السودان.
وفي السياق نفسه، أثبت نظام دمشق تبعيّته لموسكو مصوّتًا لمصلحتها، ولو أخذ بتبعيته الأخرى لإيران لامتنع عن التصويت، في المقابل كان من الطبيعي أن تذكّر المعارضة بـ «الاحتلال الروسي» لسورية باعتباره مؤشرًا لما ينتظر أوكرانيا. لكن امتناع العراق عن التصويت شكّل تأكيدًا لنأيه بالنفس عن الصراعات الخارجية على الرغم من معاناته الشديدة من التدخّل الإيراني في شؤونه. أما اعتماد لبنان «رسميًا» سياسة النأي بالنفس فلم تمنعه من تأييد قرار دولي يدين «العدوان» الروسي على أوكرانيا، أسوة بموقفه من أي عدوان إسرائيلي، ولو أن ذلك أثار جدلًا داخليًا حول «إدانة» مستبطنة للدور الإيراني على أراضيه.
اللافت في مواقف الدول العربية الأساسية أنها متوافقة حيال حرب أوكرانيا، على عكس ما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة سابقًا. صحيح أن التنافس على الهيمنة لا يزال في أساس التنافس بين التكتلات الدولية الكبرى، إلا أن الصراع الحالي بين الغرب والشرق مختلف هذه المرّة بأسبابه ودوافعه وظروفه. إذ لا تغلب عليه التناقضات العقائدية (شيوعية وليبرالية) بل الهواجس الأمنية والاقتصادية، في حين أن الخيارات السياسية (ديمقراطية، حريات، حقوق الإنسان...) تُستخدم كأدوات ضغط في خدمة المصالح وتؤدي إلى خلافات بين أصدقاء/ حلفاء مزمنين وإلى تقاربات بين خصوم مفترضين.
على قاعدة احترام سيادة الدول ورفض استخدام القوة وسيلة لتغيير الأنظمة والحدود، كذلك تغليب الحلول السلمية، بدت المواقف منسجمة بين مصر والسعودية والإمارات وسائر دول الخليج التي نسجت علاقات ومصالح متنوعة مع الأقطاب العالمية الثلاثة، ويهمّها أن تحافظ على حيادها في أي صراع دولي يلامس خطر الحرب العالمية، خصوصا أن المجتمع الدولي لم يقدم أي مساهمة إيجابية في حل أي من القضايا العربية (الصراع مع إيران، الاحتلال الإسرائيلي، حروب الربيع العربي، سد النهضة...). ليس واضحًا كيف ستنتهي حرب أوكرانيا أو الوضع الدولي الذي ستفضي إليه، غير أن اللحظة الدولية السانحة لشيء من استقلالية الموقف العربي ينبغي أن تكون حافزًا لاستعادة القرار والدور العربيين من شتاتهما في منافسات دول إقليمية ودولية. فالحياد كما يتبدى الآن يعكس مسؤولية وطنية وعربية، لكن إذا احتدم الصراع الدولي فقد يغدو صعبًا وسيكون له ثمن.
*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»