أبها: الوطن

عن منشورات دار المتوسط ـ ميلانو، إيطاليا ـ صدر كتاب «الإمام والكردينال ومعارج الإيلاف» لمؤلفه عز الدين عناية، في 280 صفحة.

ويقول عناية في حديثه عن الكتاب «مثلَ الانشغال بقضايا اللاهوت المسيحي، وبأشكال حضور الدين في المجتمعات الغربية محورَ اهتمامي، على مدى العقديْن السالفيْن. فقد كان لِعامل العيش في مجتمع كاثوليكي الدور البارز في تيسير الوعي من الداخل بالواقع الدينيّ الغربي، وفي التنبّه إلى قوّة نفاذ المؤسّسات الكَنَسيّة فيه، بعد أن كنتُ أحسبها وهنت، بفعل الغشاوة المضللة لمقولة تَعلْمُن المجتمعات الغربية. وجدت نفسي، في مستهل مجيئي إلى روما، آوي إلى ديرٍ للرهبان، وما يقتضيه العيش في الدير من حرصٍ على التكوين العلمي في مجمل تفرعات اللاهوت المسيحي وانشغال بالبحث، بدءًا في جامعة القديس توما الأكويني ثم لاحقا في الجامعة الغريغورية وكلتاهما من الجامعات البابوية».

إقرار بالدين

يكمل عناية «أبقى مدينًا في تلك المغامَرة المعرفية إلى الكردينال مايكل فيتزجيرالد، السكرتير الأسبق للمجلس البابوي للحوار بين الأديان في روما، الذي يَسّر لي ظروف خوض تلك التجربة. فالرجل يطبعه عمق روحي وسعة نظر، فضلا عن انفتاح على المغاير الديني قلَّ نظيره. جعلتني تلك التجربة أغوصُ في الأحوال المسيحية بشتى تفاصيلها، وأرصد تمثلات وعيِ الدين عند شرائح اجتماعية متنوعة، من كهنة مكرَّسين إلى عامة الناس، مرورًا بسائر أصناف الغنوصيين واللادينيين. فمنذ ذلك العهد وأنا أنام وأصحو على قرع نواقيس الكنائس، وأعيش على إيقاع مجتمع يستبطن عوائد وعقائد، غير ما ألفته في سابق عهدي. ملمحٌ آخر فارقٌ لتجربة العيش في مجتمع كاثوليكيّ غربيّ، أن أجدَ نفسي ضمن أقليّة عربية، تعيش تغريبة الهجرة بكافة تداعياتها، داخل مجتمع محكوم بسياسات متحوّلة، وما تنطوي عليه تلك الأوضاع من تعايُش وتغايُر وتثاقُف وتنافُر. وهو ما كشف لي عن وجه آخر لمعنى عيش الدين، وما يُمثِّله معنى التعددية الدينية ضمن سياق التحولات الحديثة».

ملاحقة القضايا

يتابع عناية «في غمرة هذا الانشغال بأوضاع الدين في الغرب، كانت قضايا الفكر الإسلامي، وأوضاع العالم العربي، تلاحقني في مقامي الثاني، فقد أضحت المجتمعات العربية تتمثل لي أدنى قربا مما مضى، لِفيْض المعلومات ووفرة الأبحاث المتاحة عنها. ناهيك عما لازمني من حرصٍ على الإسهام في تطوير الدراسات العلمية للأديان في البلاد العربية، سواء بما أُترجمه من أعمال عن مناهج دراسة الظواهر الدينية أو بما أكتبه عن أوضاع الدين في الغرب، وتساؤلي عما يمكن أن تشكله المقارَبات الحديثة من أُطر للوعي بظاهرة الدين وبواقع التدين بشكل عام.

فلا شك أن مطالب الإصلاح، والتجديد، والعقلنة، والأنسنة للفكر الديني، قد طُرِحت بإلحاح في البلاد العربية وعلى مؤسّساته العلميّة، منذ تنبيه العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في «أليس الصبح بقريب؟» (يعود الانتهاء من تأليف الكتاب إلى العام 1906) لِما يعتري مؤسسات التعليم من علل واهتراء. وقد مر على حديث الرجل قرن ونيف، دون قدرة على الانعتاق من الأسر التاريخي الذي تردت فيه مناهجها. لم تحدث نقلة في الوعي بظواهر الدين، وبتحولات «الكائن المتدين»، وبسُبل الاندماج في العالم، وبالمثل لم يتهيأ حرص على مواكبة النسق العلمي في الوعي بالرأسمال القداسي أكان النابع منه من موروثنا والماثل في مجتمعاتنا، أم الوافد علينا بفعل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. وكأن الأمر عائد إلى وهن بنيوي جراء تقادم المعارف، ومكر التاريخ، وانغلاق البارديغمات. فهناك استنزاف للعقل في متاهة العلوم التقليدية، دون قدرة على الخروج من هذا الدوران الثابت، أو إدراك للتبدلات التي هزت المعارف، بما يُفضي إلى تلبية مغايرة لحاجات الاجتماع ووعي مستجد».

مقاربات متنوعة

يسترسل عناية «ضمن تلك السياقات تطرّقت جملة من مباحث الكتاب، وبأوجه عدة وبمقاربات متنوعة، إلى موضوع حضور الإسلام في العالم، وأي السبل يسلك لتجنب كل ما يعكر إسهامه الإيجابي فيه؟ فأحيانا تعوز الوعيُ الإسلامي الواقعية اللازمة وأخرى تعوزه الشروط المعرفية، وكلها عقبات عويصة مدعاة لإخراج المؤمن من التاريخ. فعلى سبيل المثال، لا تسعف القدرات العلمية المتقادمة دارس العلوم الدينية المسلم للإحاطة العميقة بالمؤسسات الدينية المسيحية وبالتحولات اللاهوتية وبالوقائع المسيحية. وبرغم الحوار بين الطرفين المسيحي والإسلامي، يغيب التعويل من جانب هذا الأخير على المقارَبات المعرفية والأبحاث العلمية. وهو ما يملي إعادة نظر معمَّقة وجادة في أُطر النظر الكلاسيكية لدى الدارس المسلم لنظيره المسيحي بعيدًا عن الاستعادة الجامدة للقوالب القديمة. إذ ثمة طريق شبه مهجورة في الدراسات الإسلامية، وهي طريق الأنْسَنة والعلْموة للخطاب، في الدين وحول الدين، كي لا يبقى تواصله مع العالم قاصرا ومحدودا».

التواصل بين الأديان

يوضح عناية «أردنا كذلك التطرق إلى واقع التواصل بين الأديان، ولا سيما بين المسيحية والإسلام. فمما يُلاحَظ في واقع الأديان الراهن، أنها لا تملك خطة واضحة مستقلة عن التوجهات الأيديولوجية. فالأديان اليوم تشكو من فقدان رابطة روحية أو أساسات خُلقية جامعة بينها. وهو ما يُملي ضرورة العمل على استعادة ذلك الرصيد القِيَمي وعدم الانجرار وراء الأيديولوجيات، التي أفرغت المؤتلف الإنساني من دلالته الحقيقية وحولته إلى خطاب مفتقِر للمعنى. فما من شك أن قضايا السياسة والديمقراطية والتغيير والتنمية تشغل فئات واسعة في البلدان الإسلامية، وقسمًا مهمًا من مجتمعات العالم المسيحي، لاسيما في إفريقيا وآسيا والشطر الجنوبي من القارة الأمريكية. أردنا تناول هذا الموضوع ضمن الكتاب لإبراز ما يشكله الدين من إسهام إيجابي حين يرافق مسار تحرر الشعوب، ومن دورٍ إشكالي أيضًا حين يتم توظيفه بشكل فج. فلا يفوتنا أنّ ثمة تنازعات داخل الدين الواحد، منها ما هو متفجر ومنها ما هو خامد، تؤثر سلبًا في الانحراف بمسارات التحولات الاجتماعية».

تجنب المقارنة

يختم عناية بالإشارة إلى أن «الكتاب لا يسلك مسلك المقارَنة التقليدية في الحديث عن المسيحية والإسلام، بالتطرق إلى عقائد الدينين وتشريعاتهما، أو عرض موقف من مسألة معينة وما يقابلها في الدين الآخر، كما قد يتبادر للوهلة الأولى، وإنما يعمل على تتبع كيف يجابه كلا الدينين المأزق الراهن في شأن قضايا كبرى مثل التحرر والفقر، أو كيف يتعايش مع الحداثة والتعددية والمسكونية. لذلك يأتي الكتاب، بتنوع مباحثه، محاولة لتقصي حضور الدين في العالم الراهن، بما يمثله هذا الحضور من تجابه مع قضايا وأسئلة مستجدة. فما يجمع الدينين اليوم هو الحضور في عالم يطفح بالمتغيرات المتسارعة، تفرض إكراهاتها تجاوز المعالجة المعهودة للقضايا الدينية والدنيوية. صحيح لا يتعاطى الدينان بالأسلوب نفسه مع قضايا الدين والدنيا، ولكن الحيز المتصاغر للعالم المعولَم أضحى يلزم بالتفكير الجماعي، لتذليل المصاعب التي تواجه الجميع».

الإمام والكردينال ومعارج الإيلاف

المؤلف: عز الدين عناية

منشورات المتوسط، ميلانو (إيطاليا) 2021

عدد الصفحات: 280

المؤلف:

عز الدين عناية

أستاذ تونسي إيطالي يدرّس في جامعة روما

متخصص في دراسات الحضارات والأديان

صدرت له مجموعة من الأبحاث منها:

«الدين في الغرب» 2017

«الأديان الإبراهيمية» 2013

«نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم» 2010

«الاستهواد العربي» 2006

له ترجمات عدة، منها

ـ «المنمنمات الإسلامية» لماريا فيتوريا فونتانا 2015

ـ «علم الاجتماع الديني» لإنزو باتشي 2011

ـ «علم الأديان» لميشال مسلان 2009