محمد حسين زيدان

اختزنت ذاكرتي بعض الطـرائـف عن مشافهة، هي عن بعض أشياخنا الكبار، مع الألفاهاشم ومحمد العلي التركي ومحمد الطيب الأنصاري، كانت معهم، شرفوني بها، وعن فـالـح الـظـاهـري وحمـدان الونيس.

كنت تلميذاً وفي السنة الرابعة الراقية، وفي الامتحان الخصوصي في شهـر شعبان سنة 1342هـ، وكان الشيخ عبدالقادر شلبي عميد المدرسة يباهي بالتـلاميـذ أيـام الامتحانات، فيدعو بعض كبار العلماء أو الأعيان، كمميزين وليمنحوا العلامات لكـل تلميذ، ولعله كان يمسكهم يجودون على التلاميذ بعلامة إضافية فرحاً بـالتلميذ ومجاملة للشيخ يعني «حج وبيع مسابح»، ولم يكن ذلك اليوم يوم امتحـان لنا نحن تلامذة السنـة الرابعة الراقية، بل كان لتلامذة السنة الثالثة.

وكان رئيس الفصـل صديقنا إبراهيم عبدالرحمن فقي الصديقي من أسرة المفتي في مكة، سكن أبوه المدينة وكانت أمه من بيت الطيار الكبار.. ومن زملائه السيد يوسف مدني والسيـد ماجـد مدني وحسن إسماعيل والسيد عبدالهادي برزنجي، وكان الامتحان في مصطلح الحديث، وأستاذه السيد محمـد صقر والمميزون، تصوروا من هم؟! الخضر بن ما يأبي الجكني، المحدث، ومن أعيان شنقيط وهـو والد صـديقنا محمـد الأمين سفير الأردن سابقاً، والشيخ إبراهيم البري والشيخ الحبيب المغربي والشيخ الألفاهاشم المالي الفلاتي، ولعل إبراهيم مفتي لم يجب صواباً، فنطق الخضر ينتقد فهو حاد المزاج فإذا الشيخ عبدالقادر شلبي يرفع صـوته يرد الانتقاد بـالجدل، فهـو ليس على درجة من معرفة المصطلح كالشيخ الخضر، اتسع الجدل ولم يتدخل الآخرون، فإذا أستاذنا محمد صقر يخرج من الحلبة (فين الـزيدان.. فين الزيدان.. ؟!) (لبيك) قـال (ادخل فـك العجة).

قلت: ليس هو لنا هو امتحان سنة ثالثة قال: (ادخـل ياواد.. هـو إنت اللي راح تفك العجة)، وهمس في أذني عـلى الجـواب الصحيح، ودخلت والشيخـان يتجـادلان، سلمت بصوت جهير، فرد السلام الأشياخ، وجلست على الكرسي أرفع صـوتي أقول: أنا تلميذ في الامتحان لا ترعبوني الخوف يسقطني، وكأنما أعجب كـلامي شيخنا الخضر، وطفق يسألني عن الجواب فأجبت، وهدأت العاصفة بين الشيخين، ولم أدر ماذا جرى عني بعد.

ولا يفوتني أن أقول إن الشيخ الخضر فيه دعابة فقد كان يشاهـد ارتفاع البنـاء في بيته في زقاق الـطيـار، فـوقف مرة وهـو يشاهـد ارتفاع البناء، فقال لحاشيته (أنـا من علامات الساعة من الحفاة العراة يتطاولون في البنيان)..

وقفت على درسـه ذات مرة في شهر رمضان أسمع، فقد كان يلهج بغنة شنقيطية، وكان الحديث عن سجود السهـو قبل السلام بعد السلام، فارتفع صوته برنين وكأن عباءته قد ضاقت عليـه يقول (لله در مـالك علم أن السجود قبل السلام عن نقص وبعد السلام عن زيادة فما حصره قبل السلام دائماً ولا بعد السلام دائما)، ومشيت هكذا المغاربة أهل الحفاظ فما زالـوا المحافظين على مذهب أهل المدينة وعلى قراءة أهل المدينة، أعني مذهب مالك وقراءة نافع مولى ابن أبي نعيم، الذي دفن في البقيع، وقبره بجانب قبر مالك، ويخطئ الأدلاء يحسبـونـه نـافـع مـولى ابن أبي عمر.

أما ما جرى بعد أن خرجت من الامتحان الصوري فقد علمته بعد. كنت في رواق باب الرحمة قبل صلاة المغرب وساعة الأذان فإذا الشيخ الألفا هاشم يقف على رأسي (زيدان قم) وأخذ بيدي أسير بجانبه وإلى الروضة.. (وتعال شوف الناس) يصل الخبر إلى والدي..

الشيخ ألفـا هـاشم ومعـه ولـد يـصـلي في الـروضـة، أكبروا ذلك وكـبر الأصدقاء، وبعد صلاة المغرب بسط الشيخ المحفظة فأخرج الدواة وقلم البـوص وورقة مسطرة، أمسكت بالقلم وأخذ يمليني هكذا:

«یا زیدان يا من بزينة العلم يزدان.. يا زيدان إن المفرد العلم زيدان لـه مثنى زيد لقد دانا.. يا زيداني أضفتك إلى نفسي لأنك إلى محبوبي من العلم دان».

وعرفت السبب، فحين خرجت من الامتحان اختلفوا في إعراب اسم الزيدان، فحقق الألفا هاشم إعرابه إعراب المفرد لا إعراب المثنى.

وعن الألفا هاشم أيضـاً هو يلقي درسه في الضحى وفي شهر رمضان، وقفت أسمع وأنا ذاهب إلى المدرسة، وإذا هو يفسر قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)، ألقى التفسير المجمع عليـه الآخـرة يـوم القيـامـة.. والأولى الحيـاة الدنيا، ثم أردف ذلك وبلهجته المالية الإفريقية قال (وقال بعضهم الآخرة «المدينة» خير لك من الأولى «مكة») وانصرفت ألقيهـا بلهجته الضـاد ظاء حتى قلت إفريقي مغربي يحافظ على مذهب مالك وهو بعد مديني يحب مدينته يرحمه الله.

1980*

* كاتب وصحافي سعودي «1914-1992»