أثارت فتاوى متباينة لعدد من الشيوخ عند تناولهم قضايا متماثلة تساؤلات عدة حول مسبباتها، بينما رآها كثيرون مسألة طبيعية، حيث تراجع كثير من الشيوخ عن فتاواهم، وأقروا بأنهم غيّروها صراحة، لأسباب متنوعة.
ويرجع المفتي عن فتواه لسبب وجيه ظهر له، لم يتمخض عنه تفكيره وبحثه في البداية، أو لتغير خصوصيات الواقعة، أو لمراعاة حال المستفتي أو عوائد الناس وأعرافهم في بلدانهم، أو لأي سبب يجعل المفتي يعيد النظر في فتواه لشخص آخر من أجل استكمال دراسة الواقعة، إذ القصد الأساسي هو بلوغ الغاية، المتمثلة في تحقيق مصلحة المكلف، وموافقة قصد الشارع، فالقاعدة في الباب أن «الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد»، وإنما تتغير الفتوى بتغير الأحوال، وهو معنى تجدد الاجتهاد عموما، وكذلك الفتوى، كلما طلب من المفتي إبداء الحكم الشرعي فيها.
الواقع متغير
أوضح عضو هيئة كبار العلماء سابقا وأستاذ التعليم العالي، قيس المبارك، أن الفقه قائمٌ على التجدُّد، ذلك أنَّ الحوادث تَجِدُّ مع الأيام، وتتنامَى مع الزمن، فالوقائع والنوازلُ لا تتناهَى ولا يحيط بها الحَصْر، ومن أجل هذا كان الفقهاءُ يُراعون محلِّ النازلة، فما يُفتَى به في زمان، قد لا يُفتى به في زمان آخر، فالفتوى تقدِّر الزمان والمكان والأشخاص، لأن الشريعة جاءت بعبارات كليَّة، وبنصوص منحصرة، تتناول جزئيات المسائل التي لا تنحصر، فربما ظنَّ بعض الناس أن الفتوى هي التي تتغير، والحقُّ أنَّ الحكم الشرعيَّ ثابتٌ، والواقعَ هو الذي يتغيَّر، وهذا يعني أنَّ مِن شروط صحَّة الفتوى وجودُ تطابقٍ بين الواقعة والحكم، فالحكم نَزَل معلَّقا على واقعٍ مُشَخَّص، ولا يصحُّ أن يُنزَّلَ الحكمُ إلا على الواقع المطابق له، ويسمَّى هذا التنزيل «تحقيق المناط»، ويُسمَّى كذلك «مراعاةُ محلِّ النازلة»، ويعرِّفونه بأنه النظرُ في الواقعة، لمعرفة طبيعتها وسِماتها وأوصافها، ليَنْزل الحكمُ عليها بتطابقٍ تام، ولهذا سمَّاه بعض الفقهاء «الواقعات»، لأن الفقيه يرقُب الواقعَ، فـ«تحقيق المناط»، الذي هو تسعةُ أعشار النَّظر الفقهي، اجتهادٌ لا ينقطع إلى قيام الساعة، لتجري أحكام الشريعة على نظام واحد، تنتظم فيه الفروع بأصولها. أما تخريج الفروع بجزئيَّات المسائل دون النظر إلى القواعد الكلية، فهذا ما يفعله بعض المنتسبين للفقه في عصرنا.
جمود على المنقولات
أضاف «المبارك»: «أما في العصور الماضية، فهذا جمودٌ على المنقولات، وهو منهيٌّ عنه، لأنه مفتاح باب الفوضى في الفتوى. وقد سمَّى العلماءُ مَن يَجمد «الفقيه اليابس»، فإذا وقع من الفقيه فتوى خالف هذا الضابط، فقد شابَ هذا الدين بالشوائب، والواجب عليه إزالة الشوائب بالرجوع للحق، وهذا هو الأصل في العلماء، أنهم رجَّاعون للحق، فإزالة الشوائب هي التجديد الذي هو أصلٌ في ديننا، فهو يرجعُ بالناس إلى هَدْيِ النُّبوَّة الذي هو في جملته خُلُقٌ رفيع ثابت، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بُعِثتُ لأُتَـمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»، حيث إن الناس مع مَرِّ الأيام والليالي يُغيًّرون ويبدلون، فيبتعدون عن تعاليم الإسلام بسبب غَلَبة الأهواء والشهوات، لذلك فهم بحاجةٍ إلى مَن يعيدهم إلى الجادَّة والصواب بتجديد ما اندثر من مكارم الأخلاق».
متحدث باسم الشرع
أكد أستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، مسفر القحطاني، أن العالم والفقيه مكانته في الشريعة عظيمة وخطيرة، لأنه متحدث باسم الشرع، وموقع عن رب العالمين فيما يتعلق بالأحكام والدين، وفي عصرنا الحاضر ظهرت مسائل مستجدة لم تكن على عهد من سبق، وفيها الكثير من التعقيد والتشابك، مما يجعل الإفتاء بها يتطلب مقدرة علمية قد لا تتحقق في الفرد الواحد. كما تتطلب تريثا وتأملا في جوانبها ومآلاتها. وقد جاء عن الإمام مالك أنه قال: «إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق ليّ فيها رأي إلى الآن»، في إذا كان الإمام مالك يتريث سنوات وهو أمام دار الهجرة، فمن باب الأولى غيره من المفتين المعاصرين.
الاستمرار في الخطأ
أضاف «القحطاني»: «المفتي المعاصر إذا وقع منه خطأ أو نقص في التصور، فهو إما أن يستمر على خطأه من أجل سمعته، وهذا جهل ومخالفة لا تليق بأهل العلم، وإما أن يعدل عن فتواه، ويوضح للناس خطأه. وقد نصح أمير المؤمنين عمر، في رسالته الشهيرة إلى أبي موسى الأشعري، بأنه إذا أخطأ في حكمه، وقد استبان له الحق، فعليه أن يرجع للحق، ولا يتمادى في الباطل. والمفتي كالطبيب عليه أن يتأكد ويتحرى الدواء المناسب والصواب في وصف الحكم للسائل، وإذا قصّر في النصح والاجتهاد، فقد يؤدي بالناس إلى الوقوع في المخالفة أو التشدد، والغلو في الدين سبب هلاك الأمم من قبلنا كما جاء في الحديث. ولا أدري لماذا يتأفف الكثير من صغار المفتين من قول «لا أدري»، حيث قال ابن عباس: «إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله»، وليت زلة العالم على نفسه، بل أحيانا يتضرر منها المجتمع كله. وصراحة العالم في الاعتراف بعدم العلم أو الرجوع عن الغلط بعد قول المفتي أو الفقيه لا ينقصه، بل يرفع من مقامه، لأن ذلك دليل على خوفه من الله، وصحة ديانته، وحرصه على سلامة دين الأمة».
التراجع عن الفتوى
يعد موقف الإمام الشافعي من أبرز المواقف التي تجسد الرجوع عن الفتوى، واتخاذ دليل أحق من سابقه، إذ أعاد النظر في كثير من الفتاوى التي أفتى بها في أثناء إقامته في بغداد بعد أن غادرها إلى مصر، ولم يكن هذا الرجوع عن عدد قليل، بل هو كثير، حتى إنه شكّل فاصلا في علمه يُعتد به بين «مذهب قديم» و«آخر جديد»!.
وعلى الرغم من كون أسباب إعادته النظر في كثير من الفتاوى ما زالت مثيرة للجدل، فمن الناس من يؤمن بأنه راعى تغير المكان والظروف، وطباع الشعوب، والحاجات التي تطرأ عبر الزمن، فعمل على تطويرها وتغييرها تغييرا يتماس مع اعتبار تفاوت شدة تلك الفتاوى بعد انتقاله، ومنهم من ينفي ذلك، ويثبت أن ما فعله لم يكن إلا وصولا إلى علم أدق، واجتهاد أصوب ليست له علاقة بما ذكر. إلا أن لب الموقف يكمن في عدم تعصبه لتلك الفتاوى، ولا لاجتهاده القديم، حيث غيّرها كليا بتغيير اجتهاده، ومن الفتاوى التي أفتى بها في مصر ما كان رأيه فيها أشد من رأيه فيها حين كان في العراق.
إعادة النظر
ومن العلماء الذين أعلنوا رجوعهم إلى الحق في عصرنا الحاضر الشيخ عبدالعزيز بن باز، إذ قال في رجوعه عن إحدى المسائل التي أفتى بها: «..وبناء على هذا، وجب علىّ أن أعيد النظر في هذه الفتوى، لأن الواجب هو الأخذ بالحق، لأن الحق هو ضالة المؤمن متى وجده أخذه، فأقول: إن هذه الفتوى التي سبق ذكرها قد رجعت عنها بالنسبة إلى ما فيها من التعميم والإطلاق».
تكفير الشيعة
كما تراجع عادل الكلباني عن «تكفير» علماء المذهب الشيعي، وتراجع كذلك عن تحريم سفر المرأة دون محرم، حيث قال: «لا حرج فيه». وقال أيضا: «الغناء والموسيقى ليسا حراما»!. وأضاف «الكلباني»: «نعم، لم أعد أُكفّر من قال لا إله إلا الله، فكل من قال لا إله إلا الله، ومن أكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا، فهو مسلم»، مردفا: «ما المشكلة أن أغيّر رأيي في أي مسألة فقهية؟!».
وسبق «الكلباني» في التراجع عن تحريم الموسيقى والغناء الداعية الإماراتي وسيم يوسف الذي أكد أن «معظم الأحاديث التي تحرم الموسيقى والغناء ضعيفة، وأنها كانت نقلا عن مشايخ حين حرمها قبل أن يثبت له خطؤه»، على حد قوله!.
الترحم على الممثلين
تراجع عضو الدعوة السلفية بمصر سامح عبدالحميد عن فتوى سابقة له حرم فيها الترحم علنا على الممثلين والفنانين، معتبرا أنهم «أظهروا الفسق وارتكبوا المحرمات في حياتهم، والترحم عليهم قد يهون عند الناس ارتكاب الجرائم الأخلاقية والشرعية».
وتراجع المجلس العلمي الأعلى المغربي، وهو أكبر مؤسسة مختصة بالفتوى في المغرب، عن فتوى سابقة له تجيز قتل المرتد. وفي وثيقة صادرة عنه، أوضح المجلس: «المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها، والمستقوي عليها بخصومها، أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية».
تحريم المستجدات
قد تبين أن هناك عددا من المشايخ المحليين الذين تسرعوا في الفتوى المتعلقة بالمستجدات، حتى حرموا كل مستحدث وجديد مثل المذياع والتليفزيون والهواتف المزودة بآلات التصوير، وحتى وسائل النقل الجديدة مثل الدراجة، وكذلك تعليم الفتيات، ليتراجعوا بعد ذلك عن فتاواهم.
ومن الأمثلة التي تُذكر اليوم لأهل العلم مما حرموه من مستجدات، ثم أباحوه وفق حيثيات متعددة، منها ما هو افتراء كالقول بتحريم العلماء تعليم البنات، هكذا وبهذا الإطلاق، ومنه ما كان تحريمه لعلة يرونها صحيحة، فمتى زالت العلة زال التحريم كتحريم قيادة المرأة السيارة، أو لعلة متوهمة، فإذا تحقق عدمها انعدم الحكم المنوط بها كتحريم القهوة عند من حرمها، إذ إن سبب تحريم من حرّمها ورود معلومات خاطئة عن هذا المشروب الجديد، حيث وردهم باسم «القهوة»، وهو من أسماء الخمر عند العرب، ومنه ما حرمه بعض من ليسوا من أهل العلم، إما من صغار طلبة العلم، وإما من المتطرفين الغلاة من الجهلة، كتحريم جهاز البرقيات الذي لم يقل به عالم، لا سيما من علماء المدرسة السلفية.
قيادة المرأة
قد تراجع الداعية السعودي سعد الدريهم أيضا عن تحريمه قيادة المرأة السيارة، مشيرا إلى «قناعات معارضة لقيادة المرأة السيارة» كان يحملها، لكنه غيّرها، معتبرا الأمر «بيد ولي الأمر»، وأنه لا يوجد مانع شرعي.
كما تخلى الداعية السعودي محمد الشنار عن فتواه بتحريم السفر إلى دبي إلا للضرورة عقب ردود فعل غاضبة في الإمارات.
وتراجع الداعية السعودي صالح المنجد عن تحريم صنع «رجل الثلج» حتى وإن كان صنعه «على سبيل المرح واللعب»، إذ رد على استفسار في هذا الشأن في وقت سابق بأنه «لا شك في حرمته»، مستندا إلى تحريم صناعة التماثيل بالمملكة آنذاك.
إدراك الحكم
خطأ المفتي قد يكون مرده إلى الخطأ في صحة إدراكه الحكم، ويتمثل ذلك في تحقيق مناط الحكم، أو بعدم صحة تنزيل الواقعة المناسبة؛ لافتقادها إلى أحد الشروط التي غابت عنه، وهو في كل ذلك عالم مجتهد مأجور على اجتهاده، سواء أصاب أم أخطأ. ومن قواعد الاختلاف في تصويب المجتهدين بمسائل الفروع ما صح عن الشافعي، رضي الله عنه: «إن في الحادثة حكما معينا وعليه أمارة، من وجدها أصاب، ومن فقدها أخطأ ولم يأثم».
فتاوى تراجع العلماء عن تحريمها:
- الداعية السعودي محمد الشنار: السفر إلى دبي إلا للضرورة
- الداعية السعودي صالح المنجد: صنع «رجل الثلج»
- الداعية السعودي سعد الدريهم: قيادة المرأة السيارة
- عضو الدعوة السلفية بمصر سامح عبدالحميد: الترحم علنا على الممثلين والفنانين
- المجلس العلمي الأعلى المغربي: فتوى تجيز قتل المرتد
- الداعية السعودي عادل الكلباني: تكفير علماء المذهب الشيعي، تحريم سفر المرأة دون محرم
أسباب التراجع:
يرجع المفتي عن فتواه لسبب وجيه ظهر له
لم يتمخض عنه تفكيره وبحثه في البداية
تغير خصوصيات الواقعة
مراعاة حال المستفتي
عوائد الناس وأعرافهم في بلدانهم
ويرجع المفتي عن فتواه لسبب وجيه ظهر له، لم يتمخض عنه تفكيره وبحثه في البداية، أو لتغير خصوصيات الواقعة، أو لمراعاة حال المستفتي أو عوائد الناس وأعرافهم في بلدانهم، أو لأي سبب يجعل المفتي يعيد النظر في فتواه لشخص آخر من أجل استكمال دراسة الواقعة، إذ القصد الأساسي هو بلوغ الغاية، المتمثلة في تحقيق مصلحة المكلف، وموافقة قصد الشارع، فالقاعدة في الباب أن «الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد»، وإنما تتغير الفتوى بتغير الأحوال، وهو معنى تجدد الاجتهاد عموما، وكذلك الفتوى، كلما طلب من المفتي إبداء الحكم الشرعي فيها.
الواقع متغير
أوضح عضو هيئة كبار العلماء سابقا وأستاذ التعليم العالي، قيس المبارك، أن الفقه قائمٌ على التجدُّد، ذلك أنَّ الحوادث تَجِدُّ مع الأيام، وتتنامَى مع الزمن، فالوقائع والنوازلُ لا تتناهَى ولا يحيط بها الحَصْر، ومن أجل هذا كان الفقهاءُ يُراعون محلِّ النازلة، فما يُفتَى به في زمان، قد لا يُفتى به في زمان آخر، فالفتوى تقدِّر الزمان والمكان والأشخاص، لأن الشريعة جاءت بعبارات كليَّة، وبنصوص منحصرة، تتناول جزئيات المسائل التي لا تنحصر، فربما ظنَّ بعض الناس أن الفتوى هي التي تتغير، والحقُّ أنَّ الحكم الشرعيَّ ثابتٌ، والواقعَ هو الذي يتغيَّر، وهذا يعني أنَّ مِن شروط صحَّة الفتوى وجودُ تطابقٍ بين الواقعة والحكم، فالحكم نَزَل معلَّقا على واقعٍ مُشَخَّص، ولا يصحُّ أن يُنزَّلَ الحكمُ إلا على الواقع المطابق له، ويسمَّى هذا التنزيل «تحقيق المناط»، ويُسمَّى كذلك «مراعاةُ محلِّ النازلة»، ويعرِّفونه بأنه النظرُ في الواقعة، لمعرفة طبيعتها وسِماتها وأوصافها، ليَنْزل الحكمُ عليها بتطابقٍ تام، ولهذا سمَّاه بعض الفقهاء «الواقعات»، لأن الفقيه يرقُب الواقعَ، فـ«تحقيق المناط»، الذي هو تسعةُ أعشار النَّظر الفقهي، اجتهادٌ لا ينقطع إلى قيام الساعة، لتجري أحكام الشريعة على نظام واحد، تنتظم فيه الفروع بأصولها. أما تخريج الفروع بجزئيَّات المسائل دون النظر إلى القواعد الكلية، فهذا ما يفعله بعض المنتسبين للفقه في عصرنا.
جمود على المنقولات
أضاف «المبارك»: «أما في العصور الماضية، فهذا جمودٌ على المنقولات، وهو منهيٌّ عنه، لأنه مفتاح باب الفوضى في الفتوى. وقد سمَّى العلماءُ مَن يَجمد «الفقيه اليابس»، فإذا وقع من الفقيه فتوى خالف هذا الضابط، فقد شابَ هذا الدين بالشوائب، والواجب عليه إزالة الشوائب بالرجوع للحق، وهذا هو الأصل في العلماء، أنهم رجَّاعون للحق، فإزالة الشوائب هي التجديد الذي هو أصلٌ في ديننا، فهو يرجعُ بالناس إلى هَدْيِ النُّبوَّة الذي هو في جملته خُلُقٌ رفيع ثابت، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بُعِثتُ لأُتَـمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»، حيث إن الناس مع مَرِّ الأيام والليالي يُغيًّرون ويبدلون، فيبتعدون عن تعاليم الإسلام بسبب غَلَبة الأهواء والشهوات، لذلك فهم بحاجةٍ إلى مَن يعيدهم إلى الجادَّة والصواب بتجديد ما اندثر من مكارم الأخلاق».
متحدث باسم الشرع
أكد أستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، مسفر القحطاني، أن العالم والفقيه مكانته في الشريعة عظيمة وخطيرة، لأنه متحدث باسم الشرع، وموقع عن رب العالمين فيما يتعلق بالأحكام والدين، وفي عصرنا الحاضر ظهرت مسائل مستجدة لم تكن على عهد من سبق، وفيها الكثير من التعقيد والتشابك، مما يجعل الإفتاء بها يتطلب مقدرة علمية قد لا تتحقق في الفرد الواحد. كما تتطلب تريثا وتأملا في جوانبها ومآلاتها. وقد جاء عن الإمام مالك أنه قال: «إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق ليّ فيها رأي إلى الآن»، في إذا كان الإمام مالك يتريث سنوات وهو أمام دار الهجرة، فمن باب الأولى غيره من المفتين المعاصرين.
الاستمرار في الخطأ
أضاف «القحطاني»: «المفتي المعاصر إذا وقع منه خطأ أو نقص في التصور، فهو إما أن يستمر على خطأه من أجل سمعته، وهذا جهل ومخالفة لا تليق بأهل العلم، وإما أن يعدل عن فتواه، ويوضح للناس خطأه. وقد نصح أمير المؤمنين عمر، في رسالته الشهيرة إلى أبي موسى الأشعري، بأنه إذا أخطأ في حكمه، وقد استبان له الحق، فعليه أن يرجع للحق، ولا يتمادى في الباطل. والمفتي كالطبيب عليه أن يتأكد ويتحرى الدواء المناسب والصواب في وصف الحكم للسائل، وإذا قصّر في النصح والاجتهاد، فقد يؤدي بالناس إلى الوقوع في المخالفة أو التشدد، والغلو في الدين سبب هلاك الأمم من قبلنا كما جاء في الحديث. ولا أدري لماذا يتأفف الكثير من صغار المفتين من قول «لا أدري»، حيث قال ابن عباس: «إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله»، وليت زلة العالم على نفسه، بل أحيانا يتضرر منها المجتمع كله. وصراحة العالم في الاعتراف بعدم العلم أو الرجوع عن الغلط بعد قول المفتي أو الفقيه لا ينقصه، بل يرفع من مقامه، لأن ذلك دليل على خوفه من الله، وصحة ديانته، وحرصه على سلامة دين الأمة».
التراجع عن الفتوى
يعد موقف الإمام الشافعي من أبرز المواقف التي تجسد الرجوع عن الفتوى، واتخاذ دليل أحق من سابقه، إذ أعاد النظر في كثير من الفتاوى التي أفتى بها في أثناء إقامته في بغداد بعد أن غادرها إلى مصر، ولم يكن هذا الرجوع عن عدد قليل، بل هو كثير، حتى إنه شكّل فاصلا في علمه يُعتد به بين «مذهب قديم» و«آخر جديد»!.
وعلى الرغم من كون أسباب إعادته النظر في كثير من الفتاوى ما زالت مثيرة للجدل، فمن الناس من يؤمن بأنه راعى تغير المكان والظروف، وطباع الشعوب، والحاجات التي تطرأ عبر الزمن، فعمل على تطويرها وتغييرها تغييرا يتماس مع اعتبار تفاوت شدة تلك الفتاوى بعد انتقاله، ومنهم من ينفي ذلك، ويثبت أن ما فعله لم يكن إلا وصولا إلى علم أدق، واجتهاد أصوب ليست له علاقة بما ذكر. إلا أن لب الموقف يكمن في عدم تعصبه لتلك الفتاوى، ولا لاجتهاده القديم، حيث غيّرها كليا بتغيير اجتهاده، ومن الفتاوى التي أفتى بها في مصر ما كان رأيه فيها أشد من رأيه فيها حين كان في العراق.
إعادة النظر
ومن العلماء الذين أعلنوا رجوعهم إلى الحق في عصرنا الحاضر الشيخ عبدالعزيز بن باز، إذ قال في رجوعه عن إحدى المسائل التي أفتى بها: «..وبناء على هذا، وجب علىّ أن أعيد النظر في هذه الفتوى، لأن الواجب هو الأخذ بالحق، لأن الحق هو ضالة المؤمن متى وجده أخذه، فأقول: إن هذه الفتوى التي سبق ذكرها قد رجعت عنها بالنسبة إلى ما فيها من التعميم والإطلاق».
تكفير الشيعة
كما تراجع عادل الكلباني عن «تكفير» علماء المذهب الشيعي، وتراجع كذلك عن تحريم سفر المرأة دون محرم، حيث قال: «لا حرج فيه». وقال أيضا: «الغناء والموسيقى ليسا حراما»!. وأضاف «الكلباني»: «نعم، لم أعد أُكفّر من قال لا إله إلا الله، فكل من قال لا إله إلا الله، ومن أكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا، فهو مسلم»، مردفا: «ما المشكلة أن أغيّر رأيي في أي مسألة فقهية؟!».
وسبق «الكلباني» في التراجع عن تحريم الموسيقى والغناء الداعية الإماراتي وسيم يوسف الذي أكد أن «معظم الأحاديث التي تحرم الموسيقى والغناء ضعيفة، وأنها كانت نقلا عن مشايخ حين حرمها قبل أن يثبت له خطؤه»، على حد قوله!.
الترحم على الممثلين
تراجع عضو الدعوة السلفية بمصر سامح عبدالحميد عن فتوى سابقة له حرم فيها الترحم علنا على الممثلين والفنانين، معتبرا أنهم «أظهروا الفسق وارتكبوا المحرمات في حياتهم، والترحم عليهم قد يهون عند الناس ارتكاب الجرائم الأخلاقية والشرعية».
وتراجع المجلس العلمي الأعلى المغربي، وهو أكبر مؤسسة مختصة بالفتوى في المغرب، عن فتوى سابقة له تجيز قتل المرتد. وفي وثيقة صادرة عنه، أوضح المجلس: «المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها، والمستقوي عليها بخصومها، أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية».
تحريم المستجدات
قد تبين أن هناك عددا من المشايخ المحليين الذين تسرعوا في الفتوى المتعلقة بالمستجدات، حتى حرموا كل مستحدث وجديد مثل المذياع والتليفزيون والهواتف المزودة بآلات التصوير، وحتى وسائل النقل الجديدة مثل الدراجة، وكذلك تعليم الفتيات، ليتراجعوا بعد ذلك عن فتاواهم.
ومن الأمثلة التي تُذكر اليوم لأهل العلم مما حرموه من مستجدات، ثم أباحوه وفق حيثيات متعددة، منها ما هو افتراء كالقول بتحريم العلماء تعليم البنات، هكذا وبهذا الإطلاق، ومنه ما كان تحريمه لعلة يرونها صحيحة، فمتى زالت العلة زال التحريم كتحريم قيادة المرأة السيارة، أو لعلة متوهمة، فإذا تحقق عدمها انعدم الحكم المنوط بها كتحريم القهوة عند من حرمها، إذ إن سبب تحريم من حرّمها ورود معلومات خاطئة عن هذا المشروب الجديد، حيث وردهم باسم «القهوة»، وهو من أسماء الخمر عند العرب، ومنه ما حرمه بعض من ليسوا من أهل العلم، إما من صغار طلبة العلم، وإما من المتطرفين الغلاة من الجهلة، كتحريم جهاز البرقيات الذي لم يقل به عالم، لا سيما من علماء المدرسة السلفية.
قيادة المرأة
قد تراجع الداعية السعودي سعد الدريهم أيضا عن تحريمه قيادة المرأة السيارة، مشيرا إلى «قناعات معارضة لقيادة المرأة السيارة» كان يحملها، لكنه غيّرها، معتبرا الأمر «بيد ولي الأمر»، وأنه لا يوجد مانع شرعي.
كما تخلى الداعية السعودي محمد الشنار عن فتواه بتحريم السفر إلى دبي إلا للضرورة عقب ردود فعل غاضبة في الإمارات.
وتراجع الداعية السعودي صالح المنجد عن تحريم صنع «رجل الثلج» حتى وإن كان صنعه «على سبيل المرح واللعب»، إذ رد على استفسار في هذا الشأن في وقت سابق بأنه «لا شك في حرمته»، مستندا إلى تحريم صناعة التماثيل بالمملكة آنذاك.
إدراك الحكم
خطأ المفتي قد يكون مرده إلى الخطأ في صحة إدراكه الحكم، ويتمثل ذلك في تحقيق مناط الحكم، أو بعدم صحة تنزيل الواقعة المناسبة؛ لافتقادها إلى أحد الشروط التي غابت عنه، وهو في كل ذلك عالم مجتهد مأجور على اجتهاده، سواء أصاب أم أخطأ. ومن قواعد الاختلاف في تصويب المجتهدين بمسائل الفروع ما صح عن الشافعي، رضي الله عنه: «إن في الحادثة حكما معينا وعليه أمارة، من وجدها أصاب، ومن فقدها أخطأ ولم يأثم».
فتاوى تراجع العلماء عن تحريمها:
- الداعية السعودي محمد الشنار: السفر إلى دبي إلا للضرورة
- الداعية السعودي صالح المنجد: صنع «رجل الثلج»
- الداعية السعودي سعد الدريهم: قيادة المرأة السيارة
- عضو الدعوة السلفية بمصر سامح عبدالحميد: الترحم علنا على الممثلين والفنانين
- المجلس العلمي الأعلى المغربي: فتوى تجيز قتل المرتد
- الداعية السعودي عادل الكلباني: تكفير علماء المذهب الشيعي، تحريم سفر المرأة دون محرم
أسباب التراجع:
يرجع المفتي عن فتواه لسبب وجيه ظهر له
لم يتمخض عنه تفكيره وبحثه في البداية
تغير خصوصيات الواقعة
مراعاة حال المستفتي
عوائد الناس وأعرافهم في بلدانهم