مُحللو العالم انشغلوا بشكل الطاولة التي بشكلها البيضاوي، جمعت الرئيس الروسي مع الرئيس الفرنسي؛ واستمروا طويلاً بذلك، بينما كان فلاديمير بوتين، يعمل بصمت ومن وراء الكواليس على التخطيط لخلط أوراق العالم بأسره، وعلى رأسه دول الاتحاد الأوروبي. فبقرار موسكو الاعتراف بمن يسمون «الانفصاليين» في أوكرانيا، تلقن العالم درساً في السياسة، بعد أن انشغل بمتابعة القوات الروسية الرابضة على الحدود، بينما انقلب الأمر في نهاية المطاف إلى عكس التوقعات، التي كانت تشير إلى نشوب حرب روسية أوكرانية، وحوّل صانع السياسة الروسية التوقعات إلى أضغاث أحلام، وقلب الأمور رأساً على عقب، بتوقيع الاعتراف بإقليمي «دونيتسك ولوغانسك» الواقعتان شمال أوكرانيا.
وأحرق بوتين في هذا الاتجاه ورقتين، الأولى اتفاقية مينسك المبرمة عام 2015 والقاضية بإحلال السلام في أوكرانيا، والورقة الثانية الرغبة الجامحة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بتوريط موسكو في حربٍ تفقدها ثقلها بعض الشيء، وتعمل على حالة من التشتت في السياسة الروسية.
ويمكن تفّهم الأسباب التي دفعت موسكو للتلويح بالحرب، ومن ثم تحويل المسار إلى الاعتراف بالجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا، من خلال النظر إلى أن كييف قد باتت مساحة تُهدد الأمن القومي الروسي، وفُتحت أبواب البلاد على مصراعيها لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدول التي تنشط أجهزة استخباراتها في أوكرانيا، رغبةً في تقويض السطوة الروسية؛ ما يشكل خاصرةً رخوة بالنسبة لموسكو، التي تقبض بشدة على الضروس نظير ما يعتبره الدب الروسي حالة تمرد تمارسها ضدها أوكرانيا بدعم من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي واقع الأمر يرى البعض الحق المطلق لبوتين في حماية مصالح بلاده الاستراتيجية، فيما الآخر يرفض ذلك نظير تبعيته لمعسكر رافض للسياسة الروسية، على أنه يعطي الحق ذاته لدول تعاني مما تعاني منه روسيا من ناحية تهديد الأمن القومي.
وهذا واضح للعيان وليس بحاجة لأدلة. المهم أني في هذا الصدد أخذت الأمر على محمل التحليل، وأجد أن لدى فلاديمير بوتين عنصرين مهمين اندفع عبرهما لخلط الأوراق التي بدأت بالعسكرة وانتهت بالسياسة. الأول: أن السياسة الروسية لم تعد تقبل بحالة سيد العالم الواحد الذي ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنه حق لها، وهذا ما تعتقد موسكو أنه لم يعد مجديا في ظل تكافؤ القوى العالمية.
ومن ناحية الاستدلال فيجب القول، إن الرئيس الروسي يرى تلك الحالة كان لها إسهام ودور مباشر في تفكك بلاده في حقبة الاتحاد السوفييتي، وعلى هذا الأساس دخل كخطوة أولى مناصراً لنظام بشار الأسد في ظل الرغبة العالمية بإزالته عن الحكم في دمشق. فقد كان ذلك الموقف حينها ليس حباً بنظام آل الأسد، بل عناداً للعالم لخلق أكبر قدر من فرض الهيمنة الروسية، وقد نجح في ذلك.
والأمر الثاني، أتصور أنه نابعٌ بقدرٍ كبير من المعاناة التي تفرضها الطبيعة الجغرافية على روسيا، فإطلالتها على القطب الشمالي يفاقم من صعوبة حركتها الديناميكية، التي تفترض مواقع بحرية تنبض بالحياة، وهو الأمر الذي دفعها بالدرجة الأولى لأن تقدم على وضع يدها على شبه جزيرة القرم، لوقوعها في البحر الأسود. ناهيك عن أغلب الدول المحاذية لها كانت يوماً ما ضمن نطاق وحدتها، وهو ما يترك بعضاً من نزعة الاستعادة من خلال استدعاء الإرث التاريخي. والتداخلات تفرض على المشهد تعقيداً أكبر، كملف الغاز والنفط، إلا أنه وبقدر ما يعتقد البعض أن صانع القرار الروسي يستطيع التلاعب بالعالم، بقدر ما يعاني من الرغبة في تقاسم الصوت العالمي مع واشنطن والمعسكر التابع لها، وفي كلتا الحالتين كلفة باهظة على سيد القصر في موسكو تحمل دفعها دون تردد.
وفي مقابل كل ذلك؛ لا يمكن اعتبار أن واشنطن لم تُسهم بأن تتجه موسكو «العدو التاريخي التقليدي» للتفكير في غزو، أو دخول حربٍ مباشرة مع أوكرانيا انتهت بالاعتراف بإقليمين يشكلهما غالبية ترفض الانصياع تحت الحكم الأوكراني.
كيف؟ من خلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي أعطى إشارات فهمتها روسيا تُفيد بأن الولايات المتحدة لم تعد المواجهة العسكرية في حساباتها، على الأقل في حقبة الرئاسة الحالية؛ التي تكتفي كما يبدو في حشد الرأي العام العالمي ضد النهج الروسي أياً كان موقعه، وفي رواية تكتفي بـ«التحريض» لا أكثر ولا أقل.
وما تمارسه واشنطن من تكالب إعلامي واضح ضد موسكو، وهو بالمناسبة أكبر من حجم مشاركتها العسكرية فيما تسميه دفاعاً عن كييف، التي لم تتخط إرسال سبعة آلاف جندي أمريكي لأوكرانيا، في شكل أدنى من رمزي مقارنة بقدرتها العسكرية؛ إلا دليلا على تغير الاستراتيجية الامريكية من موضع شهوة الحروب العسكرية، إلى الكلامية.
إن ما أفرزته أزمة حشد القوى العسكرية الروسية– ولا أريد تسميتها أكثر من أزمة لأنها كذلك– يعطي إشارات واضحة حول مدى هشاشة أولاً قراءة المشهد وفق المنطق السياسي والعسكري، وثانياً مدى ضعف تحالفات بعض المعسكرات التي تفوق فيها الإعلام على الجيوش، والأهم كيف هي أشكال الخدمات التي قدمتها وتقدمها الولايات المتحدة الأمريكية للقيصر الروسي؛ من خلال ما مضى من التاريخ الهش المليء بالتخبطات والحروب، إلى أن جسدت ومنحت الفرصة لتعاظم فكرة القطبين على حساب القطب الواحد.
على الأقل تنفس فلاديمير بوتين.. وبات يشعر بالحياة مرّة.. حتى لا يُدفن مرتين.
وأحرق بوتين في هذا الاتجاه ورقتين، الأولى اتفاقية مينسك المبرمة عام 2015 والقاضية بإحلال السلام في أوكرانيا، والورقة الثانية الرغبة الجامحة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بتوريط موسكو في حربٍ تفقدها ثقلها بعض الشيء، وتعمل على حالة من التشتت في السياسة الروسية.
ويمكن تفّهم الأسباب التي دفعت موسكو للتلويح بالحرب، ومن ثم تحويل المسار إلى الاعتراف بالجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا، من خلال النظر إلى أن كييف قد باتت مساحة تُهدد الأمن القومي الروسي، وفُتحت أبواب البلاد على مصراعيها لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدول التي تنشط أجهزة استخباراتها في أوكرانيا، رغبةً في تقويض السطوة الروسية؛ ما يشكل خاصرةً رخوة بالنسبة لموسكو، التي تقبض بشدة على الضروس نظير ما يعتبره الدب الروسي حالة تمرد تمارسها ضدها أوكرانيا بدعم من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي واقع الأمر يرى البعض الحق المطلق لبوتين في حماية مصالح بلاده الاستراتيجية، فيما الآخر يرفض ذلك نظير تبعيته لمعسكر رافض للسياسة الروسية، على أنه يعطي الحق ذاته لدول تعاني مما تعاني منه روسيا من ناحية تهديد الأمن القومي.
وهذا واضح للعيان وليس بحاجة لأدلة. المهم أني في هذا الصدد أخذت الأمر على محمل التحليل، وأجد أن لدى فلاديمير بوتين عنصرين مهمين اندفع عبرهما لخلط الأوراق التي بدأت بالعسكرة وانتهت بالسياسة. الأول: أن السياسة الروسية لم تعد تقبل بحالة سيد العالم الواحد الذي ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنه حق لها، وهذا ما تعتقد موسكو أنه لم يعد مجديا في ظل تكافؤ القوى العالمية.
ومن ناحية الاستدلال فيجب القول، إن الرئيس الروسي يرى تلك الحالة كان لها إسهام ودور مباشر في تفكك بلاده في حقبة الاتحاد السوفييتي، وعلى هذا الأساس دخل كخطوة أولى مناصراً لنظام بشار الأسد في ظل الرغبة العالمية بإزالته عن الحكم في دمشق. فقد كان ذلك الموقف حينها ليس حباً بنظام آل الأسد، بل عناداً للعالم لخلق أكبر قدر من فرض الهيمنة الروسية، وقد نجح في ذلك.
والأمر الثاني، أتصور أنه نابعٌ بقدرٍ كبير من المعاناة التي تفرضها الطبيعة الجغرافية على روسيا، فإطلالتها على القطب الشمالي يفاقم من صعوبة حركتها الديناميكية، التي تفترض مواقع بحرية تنبض بالحياة، وهو الأمر الذي دفعها بالدرجة الأولى لأن تقدم على وضع يدها على شبه جزيرة القرم، لوقوعها في البحر الأسود. ناهيك عن أغلب الدول المحاذية لها كانت يوماً ما ضمن نطاق وحدتها، وهو ما يترك بعضاً من نزعة الاستعادة من خلال استدعاء الإرث التاريخي. والتداخلات تفرض على المشهد تعقيداً أكبر، كملف الغاز والنفط، إلا أنه وبقدر ما يعتقد البعض أن صانع القرار الروسي يستطيع التلاعب بالعالم، بقدر ما يعاني من الرغبة في تقاسم الصوت العالمي مع واشنطن والمعسكر التابع لها، وفي كلتا الحالتين كلفة باهظة على سيد القصر في موسكو تحمل دفعها دون تردد.
وفي مقابل كل ذلك؛ لا يمكن اعتبار أن واشنطن لم تُسهم بأن تتجه موسكو «العدو التاريخي التقليدي» للتفكير في غزو، أو دخول حربٍ مباشرة مع أوكرانيا انتهت بالاعتراف بإقليمين يشكلهما غالبية ترفض الانصياع تحت الحكم الأوكراني.
كيف؟ من خلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي أعطى إشارات فهمتها روسيا تُفيد بأن الولايات المتحدة لم تعد المواجهة العسكرية في حساباتها، على الأقل في حقبة الرئاسة الحالية؛ التي تكتفي كما يبدو في حشد الرأي العام العالمي ضد النهج الروسي أياً كان موقعه، وفي رواية تكتفي بـ«التحريض» لا أكثر ولا أقل.
وما تمارسه واشنطن من تكالب إعلامي واضح ضد موسكو، وهو بالمناسبة أكبر من حجم مشاركتها العسكرية فيما تسميه دفاعاً عن كييف، التي لم تتخط إرسال سبعة آلاف جندي أمريكي لأوكرانيا، في شكل أدنى من رمزي مقارنة بقدرتها العسكرية؛ إلا دليلا على تغير الاستراتيجية الامريكية من موضع شهوة الحروب العسكرية، إلى الكلامية.
إن ما أفرزته أزمة حشد القوى العسكرية الروسية– ولا أريد تسميتها أكثر من أزمة لأنها كذلك– يعطي إشارات واضحة حول مدى هشاشة أولاً قراءة المشهد وفق المنطق السياسي والعسكري، وثانياً مدى ضعف تحالفات بعض المعسكرات التي تفوق فيها الإعلام على الجيوش، والأهم كيف هي أشكال الخدمات التي قدمتها وتقدمها الولايات المتحدة الأمريكية للقيصر الروسي؛ من خلال ما مضى من التاريخ الهش المليء بالتخبطات والحروب، إلى أن جسدت ومنحت الفرصة لتعاظم فكرة القطبين على حساب القطب الواحد.
على الأقل تنفس فلاديمير بوتين.. وبات يشعر بالحياة مرّة.. حتى لا يُدفن مرتين.