كان أحمد التيهاني من أولي العزم لما اختار (الشعر في عسير 1351-1430) موضوعاً لأطروحته في الدكتوراه، وكان عاشقاً صابراً لما أخرجها في كتاب من جزأين كبيرين، في 1100 صفحة، ولا يساورني شك في أن هذا الضرب من الكتب يحتاج إلى قارئ يتحلى بصفتي العشق والصبر!
وأظنك ستتهيب هذا الكتاب، بادي الرأي، وربما أعرضت عنه، أو سوفت الظهور عليه إلى قابل الأيام، ولكنك إن وقفت على فهرسه، وقرأت مقدمته، ومررت على ثبت المصادر والمراجع، ستحمد للباحث صبره وعشقه؛ لأنه لا يكتب هذا النوع من الكتب إلا صابر عاشق.
أقام التيهاني أطروحته على الشعر في إقليم عسير- جنوبي المملكة العربية السعودية- وكأنه استبق القارئ إلى تفسير هذه الإقليمية في درس الأدب في هذه الناحية أو تلك، وكان حقا عليه أن يدرس الشعر في كل البلاد لا أن يستأثر بجهده وتعبه ناحية ما، مهما كانت مرتبتها في الشعر والثقافة!
لعلك فكرت في شيء من ذلك.
وما كان أحمد إقليميا حين توفر على الشعر في عسير، وحسبك أن تستعيد عدد الصفحات لتدرك ثقل التبعة التي ألقيت على كاهل باحث أجمع عزمه على درس الشعر، دون سواه من فنون الأدب، في عسير، وفي ثمانين سنة من تاريخها الأدبي الحديث!
كأنما أحس أحمد لناحية عسير ما ندعوه، اليوم، «شخصية» في المكان، لا تنفى عما سواها، ولكنها لا تصدنا عن تبيانها في الجغرافية، والإنسان، والثقافة، والفنون، أو عساه أحس، بدافع «البلدية الثقافية»، وهو دافع حسن والخوض فيه واجب، أن درس الشعر في هذه الناحية كأنما هو تتمة لما بدأه الأستاذ الجليل الدكتور عبد الله أبو داهش في تدوين صورة الثقافة العالمة في عسير وجنوبي البلاد السعودية، فخف يلم أشتات الرقم والوثائق والمخطوطات، في دأب وجلد عجيبين، وكأنما كان أبو داهش يستهل «عصر تدوين» جديداً لهذه الناحية من جزيرة العرب.
لا أستبعد أن شيئاً من هذا تردد في صدر أحمد التيهاني، فربح الدرس الأدبي هذا الكتاب الكبير! وربح النقد الأدبي وتاريخ الثقافة باحثاً مقتدراً، يحسن أداء ما تكلف بحثه ودرسه.
وأنا لا أريد أن أعرض أبواب الكتاب وفصوله، ولا أحب أن ألخصه، ولكنني أطمح إلى أن أبلغ روحه وأساسه، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وأول ما استجلب نظري أن أحمد التيهاني لم يكن ناقداً أدبياً- وهو ناقد أدبي- ولا مؤرخ أدب، وهو معدود فيهم، لكنه جمع إلى هاتين الصفتين معرفة واسعة بتاريخ عسير في القديم والحديث، وجغرافيتها، وقبائلها، وكان التمهيد الذي أقامه على تعليل الاسم «عسير»، وتعيين حدوده، ضيقاً وسعة، والبحث في المظان، والانتهاء إلى رأي يرتاح إليه = بياناً لمقدار تضلعه من تلك العلوم، وكان يكفيه، لو أراد، أن يلوذ بكتب الباحثين، ويحسن التلخيص والعرض! وأنا أعرف المشكل الذي يقع فيه باحث يعد أطروحةً علميةً عاليةً! إنه يلاقي عنتاً في أن يصغي إلى ما يرضيه، أو أن ينزل على حكم الجامعة، والمشرف، وتقاليد البحث. أظهرتني مقدمته على شيء من ذلك؛ فكلامه عن المنهج- أو المناهج التي استعان بها- مظهر لتوزع عقله ونفسه بين ما يبتغيه، وما تمليه عليه التقاليد، فقال، وكأنه يريد أن يطمئن المشرف والمناقشين: إنه اصطنع المنهج التاريخي في تتبع فنون الشعر، وثانية المنهج الموضوعاتي [ما أثقل هذه الكلمة!]، وثالثةً المنهج الاجتماعي لبيان أثر البيئة في الشعراء، ورابعة المنهج النفسي لفهم القوى الداخلية التي تحرك في نفوس الشعراء أسباب القول في بعض الموضوعات = وخامسة المنهج الجمالي لتفسير الصور الشعرية، واكتشاف وظائفها، ومصادرها، وسادسة المنهج الأسلوبي لفهم طرائق التضمين، وأشكال التعالق النصي كلها!
ولن أدافع عن أحمد وأعلل ذلك بغير ما قلته، ولن أتهمه بالتذبذب والتحير، أو أن أدفع به إلى وادي «المنهج التكاملي» وما يشبهها من عبارات، وغاية ما أرتضيه أن «المنهج» ليس حليةً مستعارة. المنهج شيء أبعد من ذلك، مهما تساهلنا في اصطناع هذه الكلمة، ولعلنا نخلط، من دون أن ندري، بين «المنهج» و»الأداة»، والمحك المتن وقدرة الباحث على الوفاء بموضوع كتابه.
لم يداخلني إحساس أن أحمد التيهاني من «عبيد المناهج»! وكان، في كتابه الواسع المحيط، يصدر عن علم الدارس، وثقافته، وبصيرته، وألمعيته. كان يلوذ بهن، أما المنهج- أو المناهج! فمحله النية، والتلفظ به مظنة الإدلال بالمعرفة، أو التلبس بما لم يعط، مما نلقاه عند ضعفة الدارسين، وصاحبنا ليس منهم!
يشبه أحمد قبيلاً من النقاد والباحثين الذين عرفوا «المنهج»- في حقيقته المنطقية والفلسفية- فإذا جعل يكتب فليس إلا الباحث- أو الكاتب- الذي يصدر عن نفسه، ولا يكاد يميط اللثام عن مصادر تكوينه، وإن دلنا أسلوبه وعبارته عن مقدار ثقافته، ودرجة ذكائه وألمعيته.
ولكن ما الجديد في كتاب التيهاني؟
وأجيب: إن الكتاب يعطيك على قدر ما تريد! إنه أفصح عن كل ما يبتغيه أحمد: قرأ الشعر من مطلعه إلى مختتمه؛ من التسمية والعنوان حتى الخاتمة، وجال في أثناء المعجم الشعري، والصورة، والموسيقى والإيقاع، وأظهرتك حواشي الصفحات على ما استعان به من مصادر ومراجع؛ من عمدة ابن رشيق وإيضاح الخطيب القزويني، إلى الاتجاه الوجداني لعبد القادر القط، وعتبات جيرار جينيت! لكنك تخرج من نقداته وأنت موقن أن أحمد يقبض على كتابه بقوة، وتعرف أن وراء هذا النقد ملكة يصدر عنها صاحبها، وذوقاً معللاً يأخذ بيد قارئه إلى مواطن الجمال والمزية، فلا تكاد تحس تذبذباً في متنه النقدي، ولا انحيازاً إلا لذوق الناقد وخبرته، ولعلك تدرك، كما أدركت، أن أحمد التيهاني يتحلى، في طول الكتاب وعرضه، بفضيلة عزيزة نادرة هي التواضع، أما المحبة- وهي فضيلته الأخرى- فتجعل ما يكتبه قريباً حبيباً، وذلك أعز ما يرجوه القارئ!
وأظنك ستتهيب هذا الكتاب، بادي الرأي، وربما أعرضت عنه، أو سوفت الظهور عليه إلى قابل الأيام، ولكنك إن وقفت على فهرسه، وقرأت مقدمته، ومررت على ثبت المصادر والمراجع، ستحمد للباحث صبره وعشقه؛ لأنه لا يكتب هذا النوع من الكتب إلا صابر عاشق.
أقام التيهاني أطروحته على الشعر في إقليم عسير- جنوبي المملكة العربية السعودية- وكأنه استبق القارئ إلى تفسير هذه الإقليمية في درس الأدب في هذه الناحية أو تلك، وكان حقا عليه أن يدرس الشعر في كل البلاد لا أن يستأثر بجهده وتعبه ناحية ما، مهما كانت مرتبتها في الشعر والثقافة!
لعلك فكرت في شيء من ذلك.
وما كان أحمد إقليميا حين توفر على الشعر في عسير، وحسبك أن تستعيد عدد الصفحات لتدرك ثقل التبعة التي ألقيت على كاهل باحث أجمع عزمه على درس الشعر، دون سواه من فنون الأدب، في عسير، وفي ثمانين سنة من تاريخها الأدبي الحديث!
كأنما أحس أحمد لناحية عسير ما ندعوه، اليوم، «شخصية» في المكان، لا تنفى عما سواها، ولكنها لا تصدنا عن تبيانها في الجغرافية، والإنسان، والثقافة، والفنون، أو عساه أحس، بدافع «البلدية الثقافية»، وهو دافع حسن والخوض فيه واجب، أن درس الشعر في هذه الناحية كأنما هو تتمة لما بدأه الأستاذ الجليل الدكتور عبد الله أبو داهش في تدوين صورة الثقافة العالمة في عسير وجنوبي البلاد السعودية، فخف يلم أشتات الرقم والوثائق والمخطوطات، في دأب وجلد عجيبين، وكأنما كان أبو داهش يستهل «عصر تدوين» جديداً لهذه الناحية من جزيرة العرب.
لا أستبعد أن شيئاً من هذا تردد في صدر أحمد التيهاني، فربح الدرس الأدبي هذا الكتاب الكبير! وربح النقد الأدبي وتاريخ الثقافة باحثاً مقتدراً، يحسن أداء ما تكلف بحثه ودرسه.
وأنا لا أريد أن أعرض أبواب الكتاب وفصوله، ولا أحب أن ألخصه، ولكنني أطمح إلى أن أبلغ روحه وأساسه، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وأول ما استجلب نظري أن أحمد التيهاني لم يكن ناقداً أدبياً- وهو ناقد أدبي- ولا مؤرخ أدب، وهو معدود فيهم، لكنه جمع إلى هاتين الصفتين معرفة واسعة بتاريخ عسير في القديم والحديث، وجغرافيتها، وقبائلها، وكان التمهيد الذي أقامه على تعليل الاسم «عسير»، وتعيين حدوده، ضيقاً وسعة، والبحث في المظان، والانتهاء إلى رأي يرتاح إليه = بياناً لمقدار تضلعه من تلك العلوم، وكان يكفيه، لو أراد، أن يلوذ بكتب الباحثين، ويحسن التلخيص والعرض! وأنا أعرف المشكل الذي يقع فيه باحث يعد أطروحةً علميةً عاليةً! إنه يلاقي عنتاً في أن يصغي إلى ما يرضيه، أو أن ينزل على حكم الجامعة، والمشرف، وتقاليد البحث. أظهرتني مقدمته على شيء من ذلك؛ فكلامه عن المنهج- أو المناهج التي استعان بها- مظهر لتوزع عقله ونفسه بين ما يبتغيه، وما تمليه عليه التقاليد، فقال، وكأنه يريد أن يطمئن المشرف والمناقشين: إنه اصطنع المنهج التاريخي في تتبع فنون الشعر، وثانية المنهج الموضوعاتي [ما أثقل هذه الكلمة!]، وثالثةً المنهج الاجتماعي لبيان أثر البيئة في الشعراء، ورابعة المنهج النفسي لفهم القوى الداخلية التي تحرك في نفوس الشعراء أسباب القول في بعض الموضوعات = وخامسة المنهج الجمالي لتفسير الصور الشعرية، واكتشاف وظائفها، ومصادرها، وسادسة المنهج الأسلوبي لفهم طرائق التضمين، وأشكال التعالق النصي كلها!
ولن أدافع عن أحمد وأعلل ذلك بغير ما قلته، ولن أتهمه بالتذبذب والتحير، أو أن أدفع به إلى وادي «المنهج التكاملي» وما يشبهها من عبارات، وغاية ما أرتضيه أن «المنهج» ليس حليةً مستعارة. المنهج شيء أبعد من ذلك، مهما تساهلنا في اصطناع هذه الكلمة، ولعلنا نخلط، من دون أن ندري، بين «المنهج» و»الأداة»، والمحك المتن وقدرة الباحث على الوفاء بموضوع كتابه.
لم يداخلني إحساس أن أحمد التيهاني من «عبيد المناهج»! وكان، في كتابه الواسع المحيط، يصدر عن علم الدارس، وثقافته، وبصيرته، وألمعيته. كان يلوذ بهن، أما المنهج- أو المناهج! فمحله النية، والتلفظ به مظنة الإدلال بالمعرفة، أو التلبس بما لم يعط، مما نلقاه عند ضعفة الدارسين، وصاحبنا ليس منهم!
يشبه أحمد قبيلاً من النقاد والباحثين الذين عرفوا «المنهج»- في حقيقته المنطقية والفلسفية- فإذا جعل يكتب فليس إلا الباحث- أو الكاتب- الذي يصدر عن نفسه، ولا يكاد يميط اللثام عن مصادر تكوينه، وإن دلنا أسلوبه وعبارته عن مقدار ثقافته، ودرجة ذكائه وألمعيته.
ولكن ما الجديد في كتاب التيهاني؟
وأجيب: إن الكتاب يعطيك على قدر ما تريد! إنه أفصح عن كل ما يبتغيه أحمد: قرأ الشعر من مطلعه إلى مختتمه؛ من التسمية والعنوان حتى الخاتمة، وجال في أثناء المعجم الشعري، والصورة، والموسيقى والإيقاع، وأظهرتك حواشي الصفحات على ما استعان به من مصادر ومراجع؛ من عمدة ابن رشيق وإيضاح الخطيب القزويني، إلى الاتجاه الوجداني لعبد القادر القط، وعتبات جيرار جينيت! لكنك تخرج من نقداته وأنت موقن أن أحمد يقبض على كتابه بقوة، وتعرف أن وراء هذا النقد ملكة يصدر عنها صاحبها، وذوقاً معللاً يأخذ بيد قارئه إلى مواطن الجمال والمزية، فلا تكاد تحس تذبذباً في متنه النقدي، ولا انحيازاً إلا لذوق الناقد وخبرته، ولعلك تدرك، كما أدركت، أن أحمد التيهاني يتحلى، في طول الكتاب وعرضه، بفضيلة عزيزة نادرة هي التواضع، أما المحبة- وهي فضيلته الأخرى- فتجعل ما يكتبه قريباً حبيباً، وذلك أعز ما يرجوه القارئ!