يصطحب الإنسان معه في مخيلته كماً هائلاً وضخماً من الصور والذكريات التي تحمل معاني وأفكاراً تتعلق بكل مجريات الحياة الإنسانية، بيد أنه في لحظتها تلك الآنية لم يكُ يملك من المعارف ما يدعوه كي يتأمل في حقائقها ويتذوق مصادرها ويبحث عن عللها وأسرارها. تلك الصور والوقائع هي ما تشكل العلوم والفكر والثقافة عند تحليلها. وأيضاً تلك الصور والذكريات تتكرر في كل زمان ومكان مع تغير يتناسب مع ما تحمله البيئات والظروف المحيطة بها، واختلاف نظرة الإنسان نفسه لها من خلال ترقيه المعرفي. فتصور ذلك الإنسان لتصرف معين في مقتبل عمره وفهمه له، يتنقل من اليمين إلى الوسط ثم إلى أقصى اليسار، من حيث اعتبار التطرف في الفهم والإدراك، بل قد يكون حينها لا يحمل في نفسه أي فهم أو معرفة أو تصور عن ذلك التصرف، إلا أنه قد حدث وأنه عاصره آنذاك، ثم ما يلبث أن يضع التصورات والفهوم والنظريات لكل ما يراه ويُعاصره، بعلة أنه قد اكتنز في مخزونه المعرفي ثقافة تمكنه من ذلك القول وتلك الرؤية، وحتى تتضح تلك الرؤية يمكن تطبيق ذلك على مسألة مفهوم الجهل ومدى اعتباره عارضاً من عوارض الأهلية ومانعاً من موانع التكليف، وهل هذا الجهل يكون حاجزاً لإطلاق تنزيل الأحكام الدنيوية والأخروية على الناس؟ وهي مسألة شائكة، تحتاج إلى تأن عند بحثها والإلمام بخيوطها المتناثرة والمتشابكة في آنٍ. عاصرت زمناً كان الحديث عن العذر بالجهل هو الذي يقود الحوارات والمناظرات بين الشباب وبين العلماء وقادة جماعات الجهاد، وذلك لأن تلك المسألة لها تعلق متلازم في الحكم على الناس من حيث الكفر والإيمان. وكان ذلك العصر ولا يزال فيه ولديه ولع شديد وغرام كبير بإصدار الأحكام على البشر، وخصوصاً من حيث إخراجهم من دائرة الإسلام ووصمهم بالكفر، وذلك الولع والغرام في التصدر لتلك المسائل العظام يقع من أفراد وجماعات من دون عمق معرفي وإدراك علمي وتعال فلسفي لتحصيل المقاصد الكلية والمعاني الكبرى لحقائق الإسلام وأركانه، وهي من مصائب العصر المزمنة التي حرمتنا من التقدم الفكري كي نتقدم مراحل كثيرة عن المرحلة التي توقفنا عندها ولما نتخطاها بعدُ، وكان القول بعدم العذر بالجهل هو الجسر القويم الذي يرتقيه ويمتطيه كل من يمم وجهته صوب النهوض بالإسلام، والرجوع بعجلة أحكام الدين والوقوف على جذوره الأصلية فيما زعموا. ومن ثم وصم آحاد الناس وعلمائهم وجماعاتهم بالكفر والشرك وذلك أنهم يعتقدون أنه لا عذر في عدم العلم بتلك المكفرات والأمور الشركية التي انتشرت ورضوا بها وانغمسوا فيها، فقد سمعوا القرآن وعلموا ببعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، فلا عذر لأحد، وأن المعذور بالجهل من كان بعيداً عن بلاد الإسلام في المسائل الفرعية كأهل البلاد التي في أطراف الدنيا، أما أمور التوحيد والاعتقاد أو كما يُسميها البعض أصول الاعتقاد والتوحيد، فلا عذر فيها بجهل لأحد سواءً كان جاهلاً وأمياً، أم كان من أنصاف المثقفين وطلبة العلم المقلدين. وهذا القول من أخطر الأقوال التي مرت على الدين الإسلامي لأنه كان مدخلاً واسعاً للانحراف الفكري والإسراع بفكر التطرف والتكفير إلى أبعد مدى قد يصل إليه، وحرق لمراحل تنزيل الأحكام الوصول للقتل والتفجير والتدمير، لأن عدم العذر بالجهل فيمن يرتكب مكفراً أو أمراً شركياً فيما يظهر لمن يُريد أن يُنزل ذلك الحكم، أنه كفر كان ولا يزال وسوف يظل الأساس الحقيقي الذي يجعل عقول الشباب وغيرهم ممن يحمل فكر التكفير أن يُغلق عقله، ويؤسس ليقين مزيف، أنه يُطبق أصول الدين كما أنزله الله تعالى على نبيه، وكما فهم صحابته، وهذا القول فيه مصادمة للواقع ويكاد يكون أقرب للجنون منه للعلم والمعرف. فالجهل بأمور دقائق ومسائل أصول التكفير وموانعه متفش بين المثقفين والمتعلمين الذين ارتقوا وتعلموا في الجامعات، فضلاً عن عامة الناس الذين لا يتقن أحدهم قراءة آية الكرسي قراءةً متقنة!! وما ذاك الرجل الحاج المتعلم الذي كان يطوف بالكعبة، ويعتقد أن نبياً من أنبياء الله مدفون بالكعبة، إلا عينة من تفشي الجهل المعقد والمركب الذي يجعل الإنسان الممعن في دروب العلم والمعرفة يُدرك حكمة وعظمة هذا الدين الإسلامي ومقاصده بأن شرع وقرر تقريراً يقيناً بأن الجاهل معذور ولو وقع في الشرك والكفر، وأنه مغفور له وغير محاسب، لأن محاسبته تتنافى مع العدل الإلهي وحكمة الخالق الصانع، وأن هناك من يملك علماً إلا أنه لا يزال جاهلاً لأنه لديه علم بالشيء على غير حقيقته، وهذا ما يتوافق مع أصول وقواعد ومقاصد هذا الدين العظيم، ولقد كانت هناك هوة سحيقة في المعارف الشرعية والمقاصد الكلية والقواعد الفقهية بين طلاب العلم الذين يترددون على العلماء الكبار في الفهوم لكل فروع الفقه وأسس الاعتقاد وأصول الفرق، وتلك الهوة يُشاهدها ويلمسها كل صاحب معرفة ترسخت قدمه في العلوم والمعارف الشرعية والاجتماعية والفلسفية. وتلك الهوة السحقية تتسع اتساعاً كبيراً بين طلاب المعرفة الراسخين في العلوم وبين العامة، وتكاد تجعل الإنسان حائراً من شدة عدم المعرفة لدى العامة- الطرف الآخر في المعادلة- بكثير من أبجديات أبسط مسائل الفقه، فضلاً عن أصول الاعتقاد التي تحتاج إلى فهم ووعي وإدراك بأصول المعاني العربية وقواعد الفقه وأصوله، والإلمام بضوابط التفسير. فعارض الجهل واعتباره عذراً ومانعاً من إطلاق الأحكام هو الأساس في البناء الفكري المعاصر.