هل دخل الشعر العربي مرحلة الشذوذ؟ وهل أصبح الشعراء الذين يكتبون القصيدة (الطبيعية) مدانين بجرم الاتصال بالشعب العربي؟ .
بعد ثلاثين سنة من العمل الشعري، يجد (الشعراء الطبيعيون) أنفسهم ملاحقين بتهمة (ارتكاب) شعر يقرؤه العامل، والمزارع، والموظف، والجندي، والممرضة، وعاملة الهاتف، وسيدة البيت، واليميني، واليساري، والإقطاعي، ورجل الدين، ورجـل المقاومة، ورئيس الوزراء، والحارس الليلي، ويضعـه التلاميذ في حقائبهم المدرسية مع الكتب والساندويشات.
ومثلما ألغت الصين الشعبية كونفيوشيوس، وسحبـت جواز سفره، وجردته من حقوقه المدنية، فإن محاولة شبيهة تجري في العالم العربي لسحب جواز أبي الطيب المتنبي، وإحالته إلى محكمة الجنايات بتهمة كتابة شعر عربي (مفهوم).
آخر تهمة وجهوهـا للمتنبي هي أنـه شاعـر (الـرواج)، وأن الشعب العربي من الخليج إلى المحيط يعتبره نجما تلفزيونياً، وأن ألوف المعجبات يلاحقنه (بالأوتوغرافات) للحصول على توقيعه، فالقصيدة العظيمة ـ حسب منظور الحداثة ـ ممنوعة من الاقتراب من أحد... ممنوعة من الاختلاط بأحد عانس، ولأن المتنبي شعبي جداً.. وشاعر جداً جداً... فهم يكتبون التقارير ضده، لأن شعبيته تجاوزت الحد المعقول، وصارت خطرا على الأمن القومي.
إنهـا تعيش عانساً.. وتموت عانساً.. وتلاقي وجـه ربهـا عانسا. الكشف الطبي الذي أجراه كبار الأطباء العرب والأجانب على المتنبي، لم يكشف عن أي خلل في غدده الشعرية.. ولا عن أي اضطراب في وظائفه الفكرية، والقومية، والجنسية، إنه شاعر سوي بكل معنى الكلمة، إنه يحمـل كل مواصفات الحداثة المطلوبة، من تجاوز، وتخطٍ، واستقراء للمستقبل.
بالإضافة إلى كونه شاعراً تصادمياً، وانقلابياً، ويترأس أكبر جبهة رفض عرفها تاريخ الشعر العربي..
ثم إن المتنبي ليس فعـلا ماضياً... ولا نصبا تذكارياً... ولا قطـاراً يتحرك في محطة الشعر العربي حول نفسه. لكنـه مـوجـة مسـافـرة باستمرار من عصر إلى عصر. لماذا يتآمرون على المتنبي إذن ؟... وربما لأنه معافى.. والآخرون مرضى.
وربما لأنه عربي.. والآخرون روم.. وفرس.. وخوارج.. ربما لأنه طبيعي.. والآخرون شاذون، وربما لأنه أبرع من غيره في إتقان فن (العلاقات العامة) وفي فهمه للعلاقة الجدلية بين الشعر وبين المجتمع العربي.
إن أخطر ما فعله الشعراء المحدثون أنهم (فكوا الارتباط) بين القصيدة العربية وبين الأمة العربية.
إنني أستعمل المتنبي هنـا كـرمـز وإشـارة... للكشف عن المحاولات الرامية إلى إسقاط النظام الشعري العربي كله، بحسناته وسيئاته، وقممه وسفوحه، وإشراقـه وكسوفه، ونماذجه الباهـرة ونماذجه الرديئة طبعاً..
أنا لا أؤمـن بنـظـام أبـدي في الشعـر لا يمكن تغييره أو استبداله.
ولكنني أؤمن بوجود (نظام ما) في كل عمل إبداعي. وليس من الضروري أن يكون هذا النظام مرتبطـا بالـوزن والقافية وإيقاعات البحور الخليلية.
ولكن المطلوب من أي شعر جديد أن يقدم لنا (نظامه الخاص).
إن الحرية الشعرية، ككل حرية، لا تعني التسيب والانفلات ورجم نوافذ التاريخ بالحجارة.
وإنما تعني فتح نوافذ جديدة تجعـل حياتنا أکثر اتساعا وإضاءة، وحداثة اللغة الشعرية لا تعني أبدا شنق كل شعر عربي مكتوب قبل عام 1970 لأنه ليس (أوريجينال)!!.
1978*
* شاعر سوري «1923 - 1998».
بعد ثلاثين سنة من العمل الشعري، يجد (الشعراء الطبيعيون) أنفسهم ملاحقين بتهمة (ارتكاب) شعر يقرؤه العامل، والمزارع، والموظف، والجندي، والممرضة، وعاملة الهاتف، وسيدة البيت، واليميني، واليساري، والإقطاعي، ورجل الدين، ورجـل المقاومة، ورئيس الوزراء، والحارس الليلي، ويضعـه التلاميذ في حقائبهم المدرسية مع الكتب والساندويشات.
ومثلما ألغت الصين الشعبية كونفيوشيوس، وسحبـت جواز سفره، وجردته من حقوقه المدنية، فإن محاولة شبيهة تجري في العالم العربي لسحب جواز أبي الطيب المتنبي، وإحالته إلى محكمة الجنايات بتهمة كتابة شعر عربي (مفهوم).
آخر تهمة وجهوهـا للمتنبي هي أنـه شاعـر (الـرواج)، وأن الشعب العربي من الخليج إلى المحيط يعتبره نجما تلفزيونياً، وأن ألوف المعجبات يلاحقنه (بالأوتوغرافات) للحصول على توقيعه، فالقصيدة العظيمة ـ حسب منظور الحداثة ـ ممنوعة من الاقتراب من أحد... ممنوعة من الاختلاط بأحد عانس، ولأن المتنبي شعبي جداً.. وشاعر جداً جداً... فهم يكتبون التقارير ضده، لأن شعبيته تجاوزت الحد المعقول، وصارت خطرا على الأمن القومي.
إنهـا تعيش عانساً.. وتموت عانساً.. وتلاقي وجـه ربهـا عانسا. الكشف الطبي الذي أجراه كبار الأطباء العرب والأجانب على المتنبي، لم يكشف عن أي خلل في غدده الشعرية.. ولا عن أي اضطراب في وظائفه الفكرية، والقومية، والجنسية، إنه شاعر سوي بكل معنى الكلمة، إنه يحمـل كل مواصفات الحداثة المطلوبة، من تجاوز، وتخطٍ، واستقراء للمستقبل.
بالإضافة إلى كونه شاعراً تصادمياً، وانقلابياً، ويترأس أكبر جبهة رفض عرفها تاريخ الشعر العربي..
ثم إن المتنبي ليس فعـلا ماضياً... ولا نصبا تذكارياً... ولا قطـاراً يتحرك في محطة الشعر العربي حول نفسه. لكنـه مـوجـة مسـافـرة باستمرار من عصر إلى عصر. لماذا يتآمرون على المتنبي إذن ؟... وربما لأنه معافى.. والآخرون مرضى.
وربما لأنه عربي.. والآخرون روم.. وفرس.. وخوارج.. ربما لأنه طبيعي.. والآخرون شاذون، وربما لأنه أبرع من غيره في إتقان فن (العلاقات العامة) وفي فهمه للعلاقة الجدلية بين الشعر وبين المجتمع العربي.
إن أخطر ما فعله الشعراء المحدثون أنهم (فكوا الارتباط) بين القصيدة العربية وبين الأمة العربية.
إنني أستعمل المتنبي هنـا كـرمـز وإشـارة... للكشف عن المحاولات الرامية إلى إسقاط النظام الشعري العربي كله، بحسناته وسيئاته، وقممه وسفوحه، وإشراقـه وكسوفه، ونماذجه الباهـرة ونماذجه الرديئة طبعاً..
أنا لا أؤمـن بنـظـام أبـدي في الشعـر لا يمكن تغييره أو استبداله.
ولكنني أؤمن بوجود (نظام ما) في كل عمل إبداعي. وليس من الضروري أن يكون هذا النظام مرتبطـا بالـوزن والقافية وإيقاعات البحور الخليلية.
ولكن المطلوب من أي شعر جديد أن يقدم لنا (نظامه الخاص).
إن الحرية الشعرية، ككل حرية، لا تعني التسيب والانفلات ورجم نوافذ التاريخ بالحجارة.
وإنما تعني فتح نوافذ جديدة تجعـل حياتنا أکثر اتساعا وإضاءة، وحداثة اللغة الشعرية لا تعني أبدا شنق كل شعر عربي مكتوب قبل عام 1970 لأنه ليس (أوريجينال)!!.
1978*
* شاعر سوري «1923 - 1998».