محمد الدوسري

كنتُ ولا أزالُ وسوف أبقى وفيًا أمينًا وحارسًا لفكرة مراجعة كل قول قد تبنيته من قبل، وأعني أي رأي علمي يتعلق بالفقه أو الأصول أو التفسير أو الحديث أو علوم العربية أو الفلسفة، ذلك أن هذه العلوم في أصل مسائلها تقوم على الظن والاحتمال، فالقطعيات فيها أقل من القليل، والاحتمالات فيها ظاهرة بينة لمن أمضى في تلك العلوم سنينَ بل عقودًا طويلة، فكثرة ملازمة تلك العلوم تجعل طالب العلم يعلم يقينًا أن كل الاحتمالات واردة ولو كانت ضعيفة، وكل التأويلات التي لم تكن تخطر في بال أهل عصر ما فإن ظروف البيئات الزمانية والمكانية كفيلة بأن تجعلها تأويلات فيها شيء من الصواب، وذلك أن أصل تلك العلوم وخصوصًا الشرعية فيها ميزة، وهي أنه يتحتم عليها أن تتلاءم مع كل زمان وفي كل بيئة، وأن يُدرك أهل كل حقبة أن خالق تلك الأزمنة الضاربة عمقًا في الزمن والتي أدركت الإنسانية إبداعات عقولهم، قد أفاض الله عليهم بخلق عقول لهم تتماثل في الخلق والإبداع مع عقول أصحاب تلك الإبداعات، وهذه نكتة يغفل عنها الكثير ممن يُنظر لعلوم الفلسفة وفلسفة العلوم. ومن الأسس التي جعلت العلماء السابقين يصلون إلى مدارك وحقائق العلوم ويبدعوا في الفقه والأصول والتفسير والحديث وعلوم العربية كلها، هو تميزهم بصفة عدم التعالي على الرجوع عن قول قالوه، ثم رأوا أن هناك قولًا آخر أرجح منه، وذلك أن العقل مع مرور الأيام وتراكم الخبرات قد يتراجع عما تبناه في وقت سابق، فهذا العقل دائم النظر في آرائه واجتهاداته ولربما استجد له جديد، أو وجد أدلة أخرى لم يقف عليها، ولربما تطورت أدواته البحثية والمعرفية، فأصبح أكثر نضجًا، لذا فإن هذا العقل له أن يتراجع عن أقواله القديمة ويتبنى أقوالًا جديدة، وهذه الميزة هي حقيقة الذات، التي امتزج بداخلها العلم والمعرفة فأصبحت تلك النفس زكيةً وطاهرة لا ترى ولا تسمع إلا علمًا ومعرفةً يكاد يصل بها إلى أعلى درجات النقاء في الكشف والوصول إلى جزء من حقائق الأشياء، ومن أجل تلك المنزلة فهي ذات لا ترى بأسًا بأن ترى قولًا آخر غير الذي تبنته، وحشدت له الأدلة والقرائن المرجحة له، في وقت قد تكون لم تنضج بعدُ كما قال المبرد عندما رجع عن أقواله في تخطئة سيبويه (هذا شيء كنا قد رأيناه في أيام الحداثة فأما الآن فلا). وهذه الصفة أعني النقاء والصفاء والتسامح مع الذات في الرجوع عن القول، هي التي نفتقدها في كثير مما نرى ونسمع في الحوارات والنقاشات العلمية والسياسية، فهي أطروحات يفتقد كثير من ممارسيها صفة إمكانية الرجوع عن القول إذا ما تبين أن قولًا آخر هو أرجح، بالأدلة والقرائن المرجحة له، فسمة زماننا الذي نُعاصره الآن أنه يتميز بتبني القول وإضفاء سياج اليقين عليه وأن الرجوع عنه يمثل انكسارا وهزيمةً!!، وهذه إشكالية، ومن يعلم حقيقتها فإنه سوف تظهر له أن كثيرًا من أسباب إشكاليتنا الفكرية هو عدم وضع احتمال إمكانية الرجوع عن القول، فلا يمكن إحداث أي تطور أو تنمية وهذا التصور الفكري لا يزال موجودًا في عمق بنية المجتمع الفكرية. وهذا التصور متغلغل في كل جوانب المؤسسات العامة والخاصة، ولا يكاد ينجو منه أحد إلا ثلة قليلة لا تملك قرارًا وليس بيدها شيء مما تفعله ليحدث تغييرًا ذا بال!!. وفي واقعنا نجد كثيرًا من التغيرات التي تحدث في شتى التوجهات التي لها تعلق بأقوال في أحكام شرعية، وكانت تلك الأقوال جزءا من مسائل تحمل في طياتها أقوالا أخرى لها واقع يتمثل في الأحكام الشرعية، مثل مسائل الموسيقى ووجوب صلاة الجماعة وحجاب المرأة ومسائل المرأة عمومًا وكل ما يتعلق بها ومن آخرها دخول المرأة السلك العسكري، وكذلك مسائل العقود البنكية وكل ما يتعلق بها من معاملات تمس كل إنسان في العالم، وتلك المسائل تتنازعها أحكام شرعية تكاد تصل إلى حد التناقض والتعارض، وذلك أن الأحكام الشرعية التي تتعلق بالمكلفين تنحصر في الوجوب والحرام والمكروه والمسنون والمباح، فكانت كثير من المسائل يتبناها علماء ومفتون يرون فيها حكم الحرام أظهر من حكم الإباحة أو الحل، ثم جاء علماء معاصرون وتبنوا أحكامًا مغايرة تمامًا لما كان معروفًا في تلك البيئات التي كانت مُعتادة على أن حكم تلك المسائل هو التحريم، أو أن ذلك الفعل حكمه الوجوب، فتتغير الأحكام، وذلك تأسيسًا على أنها أقوال بشرية يمكن أن تتغير وتتبدل، وذلك التغير والتبدل له أسباب عديدة جدًا بل إنه قد تمت كتابة رسائل وبحوث أكاديمية متخصصة في أسباب تغير الفتوى، وهناك رسائل وبحوث متخصصة تبحث أسباب الخلاف سواءً عند الفقهاء أو الأصوليين أو المفسرين أو النحويين أو المحدثين. بيد أن هناك حقيقة راسخة يتوجب أن يعيها المجتمع المثقف قبل أي أحد أن رجوع العالم أو طالب العلم عن قوله هو ظاهرة طبيعية تتماشى مع الطبيعة الإنسانية والبشرية لهذا المخلوق الذي اختصه الخالق المصور بالعقل الذي هو معجزة المعجزات التي يغفل عنها كثير من الخلق، لذا فإننا متى وصلنا إلى المعنى الذي رسخه وحققه إمام من أئمة المالكية في قوله عن مراعاة الخلاف عند توارد الأدلة في المسألة، وقد رجح قولًا من الأقوال في المسألة، بيد أنه بين أنه يُعمل القول المخالف له بأن يُصحح أي تصرف جاء مخالفًا لقوله بسبب أن هناك قولًا قد صحح ذلك التصرف، وهذا مبدأ عظيم يتطلب منا إعماله في وقتنا المعاصر، حيث إننا نسعى للتطور والتنمية ومواكبة الحركة السريعة لدورات الزمن (يعمل ابتداء على الدليل الراجح، لمقتضى الرجحان في غلبة ظنه، فإذا وقع عقد أو عبادة على مقتضى الدليل الآخر، لم يفسد العقد، ولم تبطل العبادة، لوقوع ذلك على موافقة دليل له في النفس اعتبار، وليس إسقاطه بالذي تشرح له النفس).