تترابط حلقات الحياة لدى كل فرد في سلسة أحداث وقوالب زمانية فيتكون له تاريخه الشخصي الذي التزمه بنفسه لحظة بلحظة، وعايشه بإحساسه وشعوره في كل برهة وهُنية، وخطه بنفسه وإرادته ومشيئته الإنسانية، وذلك فيما يملكه كإنسان وكان داخلاً تحت إرادته ومشيئته، أما ما كان خارجاً عن إرادته ومشيئته فهو لم يُكلف أن ينظر إليه أو يُغيره أو حتى يتفكر فيه، لأن ذلك الطريق غير الواقع تحت مشيئة وإرادة هذا الإنسان إذا ما أراد تغييره فإنه يكون مسار الهزيمة النفسية القاسية التي تُحطم ذلك الإنسان البسيط في حياته. ولأن تلك الأمور المُتفكر فيها من قبله وهي خارجة عن إرادته وسيطرته إذا ما أصر ذلك الأنسان أن يُخضعها إلى سيطرته وإرادته فقد أصبح في دائرة التكليف بالمحال والتكليف بما لا طاقة له به والتكليف بغير المقدور عليه. وقد تعلمنا في التأسيس لعلم أصول الفقه أن من مقاصد دراسة مسألة عدم التكليف بما لا يُطاق أو التكليف بالمحال هو أنه أحد أبرز صور دفع الضرر العام عن المكلفين وأنه تحقيق للعدالة الإلهية واحترام وصون للكرامة الإنسانية، وأنه المحك الحقيقي في التفرقة بين خَلق هذا المكون الإنساني وغيره من المخلوقات، وذلك بأن أمده خالقه بعقل يُميز فيه بين الأشياء وأنه لديه مزية الاختيار بين الأشياء المتناقضة، وأن مسألة التكليف بما لا يُطاق أو التكليف بالمحالات لها علاقة قوية بتحقق الهزيمة النفسية في إنسان عصرنا. وقبل بيان تلك الهزيمة النفسية يمكن أن نُبين حقيقة مسألة التكليف بما لا يُطاق، وهي مسألة أصولية عقدية، ولا شك أن هناك علاقة قوية جداً لا تكاد تنفصل بين علمي أصول الفقه وعلم الاعتقاد أو علم الكلام، لأن مسائلهما تتجاذبها الأدلة نفسها، وتنزع من مشرب ومعين واحد، ومصادرهما تكاد تكون واحدة، وطرق استمدادهما واحدة، لهذا كانت العلاقة بينهما لا تنفك لدى كل طالب علم أو معرفة. بل إنني وجدتُ أن كثيراً من المفسرين ممن مارس أشرف العلوم على الإطلاق وهو «تفسير القرآن الكريم»، قد أطالوا في هذه المسألة كثيراً، وهذا يدل على أهمية هذه المسألة ودخولها في عمق النطاق المعرفي للعلوم، ويتوجب على كل طالب علم أن يُحيط بها وبما تحتويه من إشكالات كي يُنير عقله الإنساني ويَطَّرحَ تراكمات الماضي التي ورثها دون تمحيص حقيقي. فمسألة التكليف بما لا يُطاق بعبارات سهلة وميسرة ودون الدخول في معترك نقض الأدلة وقلبها، ورد الاستدلال بطرح الأسئلة كما هي، طريقة الأصوليين في كتب الخلاف العالي التي لا تتناسب والمقالات الصحفية. فالتكليف بما لا يُطاق هو القول بأن هذا الإنسان قد تم تكليفه شرعاً بشيء فوق طاقته وقدرته الإنسانية، وأن ذلك التكليف بما لا يُطاق ممكن عقلاً فترتب على ذلك أنه ممكن شرعاً، وهذا المسار يتعارض تعارضاً كلياً ويتناقض مع أصل التكليف الشرعي الذي قصده وأراده خالق هذا الكون، ح يث إنه قد أرسى قواعد كلية لهذه الإنسانية أنه لن يُكلف نفساً إلا وسعها. لهذا قرر المحققون من علماء الأصول والاعتقاد والكلام والتفسير أن القدرة الإنسانية هي المحك الحقيقي لتعلق التكليف بأفعال البشر، فما لم يكن هذا الإنسان لديه قدرة حرة خالية من كل الشوائب والمكدرات التي تُعيق هذه القدرة أو تُضعفها بحيث تفقده عن التصرف الحر الخالي من كل صفات العيوب القادحة في نفس الإرادة الإنسانية، فإن تكليفه لا يمكن تعقله أو قبوله. وإن هذا التكليف المتصف بتلك العيوب قادح أساسي في أصل العدل الذي اتصفت به ذات الخالق العلية. وقال ابن أبي العز (ولم يكلّفهم اللّه تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم). فتلك خلاصة رحلتي العلمية مع مسألة التكليف بما لا يُطاق وأنه لا يمكن قبول أن يتم تكليف هذا الإنسان بشيء فوق طاقته وقدرته التي خلقها فيها مبدع هذا الكون، وهو أعلم وأحكم عندما صنع كل صانع وصنعته وأبدع في وضع التمييز لهذا المخلوق الإنساني من بين سائر المخلوقات. وهذه المسألة - أعني التكليف بما لا يُطاق - من المسائل التي توضح لطالب العلم والمعرفة كثيراً من حقائق المسائل الخلافية العقدية التي كان يُزعم أن هناك قولا واحدا هو الصواب وما عداه فهو باطل، بل عاصرنا من كان يطمس أقوالاً عقلانية وفيها كثير من الصحة، فقط لأنها تُخالف القول الذي كان سائداً. وتلك الطريقة هي في حقيقتها وأدٌ للعقول الإنسانية في مجتمعنا وكبح لجماح تطلعات أبناء مجتمعنا الذي كان ولايزال يتطلع للعلم والمعرفة. فهناك علاقة بين الهزيمة النفسية والتطلع لما لا يُطيقه الإنسان مما لم يقع تحت مشيئته، مثل كونه ليس غنياً مثلاً ولا يملك أموالا طائلة، وبين التفكر فيما عند الآخرين، والتطلع للثراء السريع دون التفكر في أسسه وأدواته والظروف المحيطة بذلك الإنسان المتطلع للثراء، سوف يوقعه بأن يُكلف نفسه بالمحال، فعند هذه النقطة يدخل الإنسان في لوم نفسه ولوم من حوله بسبب أنه لم يُخلق غنياً، فيقسو على نفسه وروحه ويقسو على الآخرين الذين بذلوا الغالي والنفيس لإسعاده، بيد أنه عندما تطلع لشيء ليس في مقدوره ولا يقع تحت مشيئته وإرادته فقد أصبح يحوم في مدارات التكليف بما لا يُطاق، وأنه يطلب تحقيق المحال. تلك الصور والمقاطع التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً لبيان ما يملك ذلك من يبث من قصره العاجي ممن ورث المليارات، قد أصبح تأثيرها واضحاً في جعل غير الأغنياء من المتابعين البسطاء يقعون في تكليف أنفسهم بما لا تطيقه قدراتهم، ويخرج عن مشيئتهم وإرادتهم، فيصبحوا ساخطين على حياتهم، وعلى تلك الأرواح التي تسعى حثيثاً ليل نهار لتوفر لهم حياة رغيدة وآمنة ومطمئنة ومتعففة. بيد أن هناك أرواحاً لم تعد ترضى بالقناعة والكسب الطيب بل هي متطلعة كي تحقق أمراً قد رفعه الخالق المبدع عنها في قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). فمن خلقنا أعلم بنا، فإن تكليف النفس بما لا تُطيقه، خارج عن مقاصد هذا التشريع الإسلامي المراد لكل البشرية.