مُنذُ بدايات الإدراك والوعي في القرن الماضي، علمتني الحياة المجتمعية، المفعمة بالإشكاليات الدينية المعرفية، قبل كل شيء تعلمته، أن أتحصن بالحيطة والحذر من كل شيء، وذلك لأن حياتنا المجتمعية تأسست على النزوع للحيطة والحذر، وتقديم الأسوأ في كل ما نراه ونواجهه من إشكاليات تعرض لنا أو نعرض لها. هذا ما أجده في نفسي عندما أتذكر العقود الماضية التي قضيتها وأحسستُ بها، ولا تزال في وجداني، أراها في معرض صور، ماثلة أمامي كلما رأيتُ شيئا يتغير. وخلال تلك الحياة المجتمعية، المتصفة بالحيطة، والمتميزة بالحذر من كل جديد، أصبحت النفس البشرية عندما تنزع لمعرفة المزيد مما يجري حولها، تتسارع خُطاها كي تُفكك شيئا من المجهول، الذي يسبقها بزمن، وتكاد تبذل كل شيء لتُصيب شيئا من ذلك المجهول. وخلال سعيها، تصطحب معها شعور الاحتياط والحذر والترقب، كي تتغلب على عقبات ذلك المجهول، وتلك سمة وصفة مكتسبة من الشعور المجتمعي، الذي أضفى على تلك النفس البشرية رغبتها في إحاطة ذاتها بفكرة الاحتياط في كل شيء.
وفكرة الاحتياط ليست شيئا غير محمود، وليست فكرةً جديدة، بل هي فكرة متأصلة تأصيلا شرعيا وقانونيا، وهي فكرة موجودة في علوم شتى، من فقه وأصول ونحو وصرف، وفي علوم الحديث والتفسير، وكذلك هي موجودة في العلوم الجنائية، وهي فكرة معمول بها في الاتجاهات القضائية، بيد أن الإشكالية في فكرة الاحتياط هي كيفية توظيفها في حياتنا المعاصرة، وطريقة تنزيلها على أفعال المكلفين، والأهم من ذلك كله العناصر الحقيقية المكونة لفهم فكرة الاحتياط، التي تتأسس عليها فكرة الاحتياط لدى المفتي والفقيه والقاضي والمشرع (المنظم الذي يتولى إصدار الأنظمة واللوائح ذات القواعد المجردة والعامة)، فهذا الأصل يكتنفه الكثير من عدم وضوح الرؤية بسبب تشعب قضاياه، وتفرقها في كثير من أبواب التشريع الإسلامي، خاصة الفقه وأصوله، والإفتاء والقضاء والتنظيم. وعلى الرغم من أن المجتهدين عرفوا هذا الأصل، وبنوا عليه مذاهبهم، فإنهم لم يفردوه في باب مستقل. وقد أصل الفقهاء المعاصرون نظريةً لهذا المصطلح، فنجد كثيرا من الدراسات قد بحثت الاحتياط في رسائل علمية أكاديمية تحت مسميات عدة، منها «نظرية الاحتياط الفقهي» و«العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي».
والناظر في كتب الفقهاء والأصوليين لا يجد مبحثا خاصا ومستقلا للاحتياط، وإنما يوردونه عرضا، وهذا هو السبب في غياب هذا المصطلح في بعض كتب الحدود والتعريفات.
وحيث إنني مسكون باللغة والنحو والصرف، فقد آليت أن أجد هذا المعنى لدى كبارها ومؤصلي قواعدها، فوجدتُ الإمام «ابن فارس» اللغوي قد أرجع المادة إجمالا إلى «الإحاطة بالشيء»، فيقول: «الحاءً والواوُ والطاءُ كلمةٌ واحدةٌ، وهو الشيء يطيف بالشيء، فالحوط من حاطه حوطا»، ويقول «ابن جني»: «أعلم أن العرب إذا أرادت المعنى مكنته واحتاطت له»، فأخذ الأمور بالحزم والثقة هي معان في عمق فكرة الاحتياط، وهذا المعنى ورد توظيفه لدى الفقهاء والأصوليين مثل قول «الشاطبي»: «الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم»، ومنه قول «الكفوي» و«المناوي»: «هو فعل ما يتمكن به من إزالة الشك».
ولعل أهم تعريف في نظري هو تعريف «ابن تيمية»: «اتقاء ما يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح». ومن هذا التأصيل للاحتياط لدى الفقهاء والأصوليين قد بدأت فكرة الاتجاه إلى إعطاء كل فتوى أو حكم في قضية معاصرة النزوع إلى سد باب كل قول خلافي قد ثبت الخلاف فيه منذ العهد الأول، وهو عهد الصحابة، ثم من بعدهم توثق الخلاف لدى التابعين، ثم ظهرت الاتجاهات والمدارس الفقهية، التي أسست لوجود الخلاف والنزاع في مفاهيم نصوص التشريع، ثم ظلت تلك الخلافات موجودة ومتناثرة في أصول كتب المذاهب الفقهية وأمهات كتب الفقه، إلا أن نزعة الاندفاع نحو كل قول فيه شيء من التحريم والكراهية، لاقتحام أي تصرف ورد فيه خلاف فقهي مؤصل منذ القدم، كانت ولا تزال موجودة لدى المفتين، وأصحاب الدراسات الأكاديمية في كليات الشريعة وأصول الدين في مجتمعنا، وهذا نجد أثره أمامنا في كل تغيير أو تطور يحدث في تصرفات المجتمع، مما خلق زيادة في الخوف والحذر لدى أفراد المجتمع من مجرد تصور وجود الخلاف الفقهي في مسألة قد دامت عقودا يظن أولئك أنها محرمة، ثم يظهر أمامهم قول يُصيب ذلك التصور والاعتقاد في عمقه، ويُسقط كل تلك الهالات القدسية التي طوقت تلك التصورات والاعتقادات بأنها الدين، وما عداها هو مروق وخروج عن الملة. وهذا النزوع إلى الاحتياط، الذي أغلق كل بابٍ من أبواب الخلاف، هو عائق من عوائق التطور والنمو المجتمعي، كي يأخذ مساره مثل أي مجتمع إنساني في هذا الكون.
لذلك، فإننا نجد أن أي فرد من أفراد المجتمع إذا ما خرج إلى المجتمعات الإنسانية الأخرى، التي تختلف اختلافا كليا عن مجتمعنا، سواءً في التصورات أو الاعتقادات أو المفاهيم أو الأصول الدينية، فإن ذلك الفرد يتأقلم ويندمج مع كل متغيرات تلك المجتمعات دون أن يجد ذلك الاحتياط أو الحذر العائق من كل تطور ونمو مكانا في نفس وذات ذلك الفرد، وأظن أن السبب في ذلك أن الهيمنة الدينية على تصرفات تلك المجتمعات اضمحلت وتلاشت أمام الفكر المدني المجتمعي الحديث، وأخذت الهيمنة الدينية موقعها وحجمها الحقيقي، فانطلقت تلك المجتمعات بكل تلقائية وعفوية، فسادت المدنية المتوافقة مع الفطرة الإنسانية، التي هي مقصد من مقاصد الشريعة. لذا، فإن أصل التشريع المقاصدي في الملة الإسلامية هو ترك الفطرة الإنسانية تتفاعل مع التطورات المجتمعية دون فرض قيود عليها ليس لها تأصيل يقيني الدلالة ويقيني الثبوت، وتحجيم فكرة الاحتياط والحذر ومحاصرتها، كي لا تكون كابوسا وسيفا مسلطا على التصرفات المجتمعية، وكي لا تُقيده وتفرض عليه سلوكيات وتقاليد لا أصل لها بحجة عدم الوقوع في الأثم والعدوان. ومن أسس تحجيم تمدد فكرة الاحتياط، وسيطرتها على الفكر المجتمعي أن يتم فتح باب الاختيارات الفقهية الخلافية لما يتوافق مع التطورات المعاصرة، كي لا يبقى المجتمع مقيدا بما ليس تحريمه يقيني الدلالة والثبوت.
وفكرة الاحتياط ليست شيئا غير محمود، وليست فكرةً جديدة، بل هي فكرة متأصلة تأصيلا شرعيا وقانونيا، وهي فكرة موجودة في علوم شتى، من فقه وأصول ونحو وصرف، وفي علوم الحديث والتفسير، وكذلك هي موجودة في العلوم الجنائية، وهي فكرة معمول بها في الاتجاهات القضائية، بيد أن الإشكالية في فكرة الاحتياط هي كيفية توظيفها في حياتنا المعاصرة، وطريقة تنزيلها على أفعال المكلفين، والأهم من ذلك كله العناصر الحقيقية المكونة لفهم فكرة الاحتياط، التي تتأسس عليها فكرة الاحتياط لدى المفتي والفقيه والقاضي والمشرع (المنظم الذي يتولى إصدار الأنظمة واللوائح ذات القواعد المجردة والعامة)، فهذا الأصل يكتنفه الكثير من عدم وضوح الرؤية بسبب تشعب قضاياه، وتفرقها في كثير من أبواب التشريع الإسلامي، خاصة الفقه وأصوله، والإفتاء والقضاء والتنظيم. وعلى الرغم من أن المجتهدين عرفوا هذا الأصل، وبنوا عليه مذاهبهم، فإنهم لم يفردوه في باب مستقل. وقد أصل الفقهاء المعاصرون نظريةً لهذا المصطلح، فنجد كثيرا من الدراسات قد بحثت الاحتياط في رسائل علمية أكاديمية تحت مسميات عدة، منها «نظرية الاحتياط الفقهي» و«العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي».
والناظر في كتب الفقهاء والأصوليين لا يجد مبحثا خاصا ومستقلا للاحتياط، وإنما يوردونه عرضا، وهذا هو السبب في غياب هذا المصطلح في بعض كتب الحدود والتعريفات.
وحيث إنني مسكون باللغة والنحو والصرف، فقد آليت أن أجد هذا المعنى لدى كبارها ومؤصلي قواعدها، فوجدتُ الإمام «ابن فارس» اللغوي قد أرجع المادة إجمالا إلى «الإحاطة بالشيء»، فيقول: «الحاءً والواوُ والطاءُ كلمةٌ واحدةٌ، وهو الشيء يطيف بالشيء، فالحوط من حاطه حوطا»، ويقول «ابن جني»: «أعلم أن العرب إذا أرادت المعنى مكنته واحتاطت له»، فأخذ الأمور بالحزم والثقة هي معان في عمق فكرة الاحتياط، وهذا المعنى ورد توظيفه لدى الفقهاء والأصوليين مثل قول «الشاطبي»: «الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم»، ومنه قول «الكفوي» و«المناوي»: «هو فعل ما يتمكن به من إزالة الشك».
ولعل أهم تعريف في نظري هو تعريف «ابن تيمية»: «اتقاء ما يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح». ومن هذا التأصيل للاحتياط لدى الفقهاء والأصوليين قد بدأت فكرة الاتجاه إلى إعطاء كل فتوى أو حكم في قضية معاصرة النزوع إلى سد باب كل قول خلافي قد ثبت الخلاف فيه منذ العهد الأول، وهو عهد الصحابة، ثم من بعدهم توثق الخلاف لدى التابعين، ثم ظهرت الاتجاهات والمدارس الفقهية، التي أسست لوجود الخلاف والنزاع في مفاهيم نصوص التشريع، ثم ظلت تلك الخلافات موجودة ومتناثرة في أصول كتب المذاهب الفقهية وأمهات كتب الفقه، إلا أن نزعة الاندفاع نحو كل قول فيه شيء من التحريم والكراهية، لاقتحام أي تصرف ورد فيه خلاف فقهي مؤصل منذ القدم، كانت ولا تزال موجودة لدى المفتين، وأصحاب الدراسات الأكاديمية في كليات الشريعة وأصول الدين في مجتمعنا، وهذا نجد أثره أمامنا في كل تغيير أو تطور يحدث في تصرفات المجتمع، مما خلق زيادة في الخوف والحذر لدى أفراد المجتمع من مجرد تصور وجود الخلاف الفقهي في مسألة قد دامت عقودا يظن أولئك أنها محرمة، ثم يظهر أمامهم قول يُصيب ذلك التصور والاعتقاد في عمقه، ويُسقط كل تلك الهالات القدسية التي طوقت تلك التصورات والاعتقادات بأنها الدين، وما عداها هو مروق وخروج عن الملة. وهذا النزوع إلى الاحتياط، الذي أغلق كل بابٍ من أبواب الخلاف، هو عائق من عوائق التطور والنمو المجتمعي، كي يأخذ مساره مثل أي مجتمع إنساني في هذا الكون.
لذلك، فإننا نجد أن أي فرد من أفراد المجتمع إذا ما خرج إلى المجتمعات الإنسانية الأخرى، التي تختلف اختلافا كليا عن مجتمعنا، سواءً في التصورات أو الاعتقادات أو المفاهيم أو الأصول الدينية، فإن ذلك الفرد يتأقلم ويندمج مع كل متغيرات تلك المجتمعات دون أن يجد ذلك الاحتياط أو الحذر العائق من كل تطور ونمو مكانا في نفس وذات ذلك الفرد، وأظن أن السبب في ذلك أن الهيمنة الدينية على تصرفات تلك المجتمعات اضمحلت وتلاشت أمام الفكر المدني المجتمعي الحديث، وأخذت الهيمنة الدينية موقعها وحجمها الحقيقي، فانطلقت تلك المجتمعات بكل تلقائية وعفوية، فسادت المدنية المتوافقة مع الفطرة الإنسانية، التي هي مقصد من مقاصد الشريعة. لذا، فإن أصل التشريع المقاصدي في الملة الإسلامية هو ترك الفطرة الإنسانية تتفاعل مع التطورات المجتمعية دون فرض قيود عليها ليس لها تأصيل يقيني الدلالة ويقيني الثبوت، وتحجيم فكرة الاحتياط والحذر ومحاصرتها، كي لا تكون كابوسا وسيفا مسلطا على التصرفات المجتمعية، وكي لا تُقيده وتفرض عليه سلوكيات وتقاليد لا أصل لها بحجة عدم الوقوع في الأثم والعدوان. ومن أسس تحجيم تمدد فكرة الاحتياط، وسيطرتها على الفكر المجتمعي أن يتم فتح باب الاختيارات الفقهية الخلافية لما يتوافق مع التطورات المعاصرة، كي لا يبقى المجتمع مقيدا بما ليس تحريمه يقيني الدلالة والثبوت.