يلحظ الباحث المعاصر في تراث الفكر العربي، لا سيما التراث الواصل إلينا من الأعصر العباسية، ظاهرة يقف عندها في شبه حيرة، لا يدري كيف يفسرها، ولا كيف يخرج منها برأي علمي يطمئن إليه العقل.
يرى عالماً مثل جابر بن حيان، أو الكندي، أو ابن الهيثم، حتى ابن طفيل، ثم يرى مفكرين من طراز الجاحظ، أو الفارابي، أو ابن سينا، أو الغزالي نفسه- يرى الباحث كل واحد من هؤلاء وأمثالهم من عظماء الفكر العربي في تلك العصور. يؤمن بالعقل، ويعتمد التجربة الحسية في كشف قوانين الطبيعة، أو يعتمد قـانـون الجدل العلمي والمنطقي في استخلاص الحقائق الكونية، ويرى بعضهم يتخذ منهجاً علمياً سليا في الحصول على المعرفة، ويصل بهذا المنهج إلى كشـوف رائعة، واستنتاجات قيمة، وقد أضافوا جميعاً إلى المعرفة الإنسانية، بفضل إيمانهم بالعقـل واعتمادهم إياه ثروة ضخمة من المعارف والحقائق أفادت منها النهضة العلمية الأوروبية في عصر الإحياء وما بعـده اقادات لا تزال في المكان المرموق من تاريخ الحضارة البشـريـة الحديثة.
ثم يرى الباحث أن هؤلاء العظماء، رغم ثقتهم بالعقل، ورغم اهتدائهم بهـدى التجربة والمناهج العلمية، يستسلمون في جانب آخر من أعمالهم الفكرية، إلى المعرفة الغيبية الصرف، وأحياناً يبالغون في الاستسلام إلى حد أنهم يعتمدون الحدس النفسي الخالص البعيد عن منطقة العقل والنظر العلمي، بل النظر الإسلامي الأصيل نفسـه بل قد يجاوز بعضهم كل مناطق الإدراك الإنساني إلى ضباب الأوهام والطلسمات.
هذه الظاهرة ليست فردية أو قاصرة على أفراد معدودين بل لها صفة الظاهرة الواسعة الغالية حتى ليخيل إلينا أن كل واحد من أولئك العلماء والمفكرين العظام المبدعين، يظهر في تراثنا العلمي الفكري بشخصيتين متناقضتين كل التناقض؛ إحداهما، شخصية العالم أو المفكر المؤمن بالعقل، الواثق بقدرته العظيمة على فهم قوانين الكون والطبيعة، وعلى الوصول إلى المعرفة عن طريق التجربة الحسية أو بالمناهج العلمية التي تأخذ بأساليب الاستقراء والاستنباط كليهما معاً، أو بأحدهما. والثانية شخصية الحدسي، أو الصوفي، أو الطلسمي- إذا صح التعبير- المنكر لقدرة العقل، اليائس من تحصيل الحقيقة بطريق الوجود الكوني الموضوعي، طريق المعرفة التجريبية أو المنهجية العلمية.
من العسير تفسير التناقض والازدواج عند أسلافنا القدامى، لأن التميز الطبقي كما هو في العصر الحاضر، لا يصح اعتباره قائماً في الأعصر العباسية، وحتى العلاقة الطبقية بين العلماء والمفكرين في تلك الأعصر ومجتمعهم لم تكن على نحو يشبه العلاقة التي تربط بعض علماء عصرنا ومفكريه ببعض طبقات مجتمعهم المعاصر، فنحن نعلم أن كثيراً من العلماء والمفكرين العرب في الأعصر العباسية، كانوا إلى الفقراء أقرب منهم إلى ذوي اليسر والرخاء والجاه، بل نحن نعلم أن بعضهم قد أبدع أفضل أعماله العلمية أو الفكرية، وهـو رازح بأثقـال الفقر والعوز حتى الجوع.
فكيف يمكن، والحال هذه، أن نفسر تناقضهم ذاك بمثل ما نفسر تناقض بعض العلماء والمفكرين في الأعصر الحديثة؟
والواقع أن الباحث اليوم في تراثنا العلمي والفكري قد يصل في دراسته لبعض علمائنا ومفكرينا إلى نتائج باهرة من حيث دلالتها على بلوغ أولئك العلماء والمفكرين إلى حقائق كونية تبقى لها جدتها وروعتهـا وقيمتها العلمية والفكرية حتى في عصر التطور والتقدم الحاضر... ولكن ما إن يرى الباحث نفسه وقد أوشك أن يخلص من تلك النتائج الباهرة إلى حكم راجح في دراسته هذه، حتى يصطدم بالجانب الآخر من آثار أولئك العلماء والمفكرين. وهو الجانب الذي يقعون منه في الغيبية، أو الصوفية، أو «الطلسمية»... أي في المنطقة البعيدة كل البعد عن مناطق النظر العقلي أو المنهج العلمي التي يكونون قد عاشوا في مناخاتها، وتكيفوا بطبيعتها، واكتشفوا في ظلالها عظيم الحقائق وجليل المعارف.
وإني لحديث العهد بعالمنا العظيم، جابر بن حيان، الذي وصلت في رحلة فكرية مع سيرته العلمية إلى غاية كدت أراني عندها أجرؤ على القول، إنه لذو رأي في الكون والطبيعة يقرب جـدا من أعظم الآراء العلمية الحديثة تطوراً وتقدماً. ولكن سرعان ما اصطدمت بالجانب الآخر من آثاره وآرائه، حين بلغت في رحلتي تلك، منطقة الطلسمات، في طروحات هي إلى الخرافة أقرب منها إلى العلم، رغم أنه صاحب منهج علمي دقيق سليم.
ويقينا أنه ما من باحث معاصر يأخذ بأحد المناهج العلمية المعاصرة إلا وقد عانى مثل هذه التجربة في دراسة رجال الفكر العربي في أعظم عصوره.
فما سر هذه الظاهرة، وما تفسيرها العلمي الواقعي؟ أيمكن أن نرجعها إلى ازدواجية في شخصية كل من أولئك العلماء والمفكرين العظام، ثم نفسر هذه الازدواجية بكونها ظاهرة تاريخية لم يكن من منطق التطور التاريخي أن يتخلص منها العقل العربي في عصوره تلك؟.
1955*
* باحث وأكاديمي لبناني «1910 - 1987»
يرى عالماً مثل جابر بن حيان، أو الكندي، أو ابن الهيثم، حتى ابن طفيل، ثم يرى مفكرين من طراز الجاحظ، أو الفارابي، أو ابن سينا، أو الغزالي نفسه- يرى الباحث كل واحد من هؤلاء وأمثالهم من عظماء الفكر العربي في تلك العصور. يؤمن بالعقل، ويعتمد التجربة الحسية في كشف قوانين الطبيعة، أو يعتمد قـانـون الجدل العلمي والمنطقي في استخلاص الحقائق الكونية، ويرى بعضهم يتخذ منهجاً علمياً سليا في الحصول على المعرفة، ويصل بهذا المنهج إلى كشـوف رائعة، واستنتاجات قيمة، وقد أضافوا جميعاً إلى المعرفة الإنسانية، بفضل إيمانهم بالعقـل واعتمادهم إياه ثروة ضخمة من المعارف والحقائق أفادت منها النهضة العلمية الأوروبية في عصر الإحياء وما بعـده اقادات لا تزال في المكان المرموق من تاريخ الحضارة البشـريـة الحديثة.
ثم يرى الباحث أن هؤلاء العظماء، رغم ثقتهم بالعقل، ورغم اهتدائهم بهـدى التجربة والمناهج العلمية، يستسلمون في جانب آخر من أعمالهم الفكرية، إلى المعرفة الغيبية الصرف، وأحياناً يبالغون في الاستسلام إلى حد أنهم يعتمدون الحدس النفسي الخالص البعيد عن منطقة العقل والنظر العلمي، بل النظر الإسلامي الأصيل نفسـه بل قد يجاوز بعضهم كل مناطق الإدراك الإنساني إلى ضباب الأوهام والطلسمات.
هذه الظاهرة ليست فردية أو قاصرة على أفراد معدودين بل لها صفة الظاهرة الواسعة الغالية حتى ليخيل إلينا أن كل واحد من أولئك العلماء والمفكرين العظام المبدعين، يظهر في تراثنا العلمي الفكري بشخصيتين متناقضتين كل التناقض؛ إحداهما، شخصية العالم أو المفكر المؤمن بالعقل، الواثق بقدرته العظيمة على فهم قوانين الكون والطبيعة، وعلى الوصول إلى المعرفة عن طريق التجربة الحسية أو بالمناهج العلمية التي تأخذ بأساليب الاستقراء والاستنباط كليهما معاً، أو بأحدهما. والثانية شخصية الحدسي، أو الصوفي، أو الطلسمي- إذا صح التعبير- المنكر لقدرة العقل، اليائس من تحصيل الحقيقة بطريق الوجود الكوني الموضوعي، طريق المعرفة التجريبية أو المنهجية العلمية.
من العسير تفسير التناقض والازدواج عند أسلافنا القدامى، لأن التميز الطبقي كما هو في العصر الحاضر، لا يصح اعتباره قائماً في الأعصر العباسية، وحتى العلاقة الطبقية بين العلماء والمفكرين في تلك الأعصر ومجتمعهم لم تكن على نحو يشبه العلاقة التي تربط بعض علماء عصرنا ومفكريه ببعض طبقات مجتمعهم المعاصر، فنحن نعلم أن كثيراً من العلماء والمفكرين العرب في الأعصر العباسية، كانوا إلى الفقراء أقرب منهم إلى ذوي اليسر والرخاء والجاه، بل نحن نعلم أن بعضهم قد أبدع أفضل أعماله العلمية أو الفكرية، وهـو رازح بأثقـال الفقر والعوز حتى الجوع.
فكيف يمكن، والحال هذه، أن نفسر تناقضهم ذاك بمثل ما نفسر تناقض بعض العلماء والمفكرين في الأعصر الحديثة؟
والواقع أن الباحث اليوم في تراثنا العلمي والفكري قد يصل في دراسته لبعض علمائنا ومفكرينا إلى نتائج باهرة من حيث دلالتها على بلوغ أولئك العلماء والمفكرين إلى حقائق كونية تبقى لها جدتها وروعتهـا وقيمتها العلمية والفكرية حتى في عصر التطور والتقدم الحاضر... ولكن ما إن يرى الباحث نفسه وقد أوشك أن يخلص من تلك النتائج الباهرة إلى حكم راجح في دراسته هذه، حتى يصطدم بالجانب الآخر من آثار أولئك العلماء والمفكرين. وهو الجانب الذي يقعون منه في الغيبية، أو الصوفية، أو «الطلسمية»... أي في المنطقة البعيدة كل البعد عن مناطق النظر العقلي أو المنهج العلمي التي يكونون قد عاشوا في مناخاتها، وتكيفوا بطبيعتها، واكتشفوا في ظلالها عظيم الحقائق وجليل المعارف.
وإني لحديث العهد بعالمنا العظيم، جابر بن حيان، الذي وصلت في رحلة فكرية مع سيرته العلمية إلى غاية كدت أراني عندها أجرؤ على القول، إنه لذو رأي في الكون والطبيعة يقرب جـدا من أعظم الآراء العلمية الحديثة تطوراً وتقدماً. ولكن سرعان ما اصطدمت بالجانب الآخر من آثاره وآرائه، حين بلغت في رحلتي تلك، منطقة الطلسمات، في طروحات هي إلى الخرافة أقرب منها إلى العلم، رغم أنه صاحب منهج علمي دقيق سليم.
ويقينا أنه ما من باحث معاصر يأخذ بأحد المناهج العلمية المعاصرة إلا وقد عانى مثل هذه التجربة في دراسة رجال الفكر العربي في أعظم عصوره.
فما سر هذه الظاهرة، وما تفسيرها العلمي الواقعي؟ أيمكن أن نرجعها إلى ازدواجية في شخصية كل من أولئك العلماء والمفكرين العظام، ثم نفسر هذه الازدواجية بكونها ظاهرة تاريخية لم يكن من منطق التطور التاريخي أن يتخلص منها العقل العربي في عصوره تلك؟.
1955*
* باحث وأكاديمي لبناني «1910 - 1987»