ما تشهده المنطقة اليوم هو نشوء حالة من الفراغ فيها بسبب الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة وضعف قدرتها عى التأثير فيه كمدير للعلاقات بين الدول
ترتكز سياسة المملكة الخارجية على مجموعة من المحددات التي تشكل أساس قوتها وقدرتها على الفعل السياسي الخارجي، وتعتمد هذه المحددات بصورة عامة على عدد من العوامل التي تتعلق بالجغرافيا السياسية، والأوضاع الداخلية إضافة إلى الاتجاهات العامة (trends) في النظام الإقليمي والعالمي.
نجاح أي سياسة خارجية لأي دولة يرتبط بمدى قدرتها على تحليل واقعها بصورة سليمة، واستشراف التغيرات في الاتجاهات العامة في النظام الإقليمي والعالمي، ومن ثم المواءمة بين كل هذه العوامل واستباقها في عملية التفاعل مع هذه المحددات الأساسية للسياسة الخارجية.
النظامان الإقليمي والعالمي يشهدان في الفترة الحالية عددا من المتغيرات التي سيكون لها تأثير كبير على سياستنا الخارجية مستقبلا، ويمكن استشراف هذه التغيرات من خلال النظر في الاتجاهات العامة التي يسير فيها عدد من المحددات الأساسية وهي كالتالي:
أولا: النفط
تمثل ورقة النفط الورقة الأساسية لسياستنا الخارجية والمصدر الرئيس الذي يخلق لنا مساحة التحرك على المسرح السياسي العالمي. اعتمدت هذه الورقة بصورة رئيسة على هامش القدرة الإنتاجية للمملكة (swing capacity) والتي تجعلها اللاعب الرئيس في سوق النفط العالمي، من خلال إمكانية المملكة على تغطية العجز وضمان استقرار الأسواق، إضافة لاستخدام النفط كورقة ضغط، وهذه القدرة أوجدت للمملكة مقعدا أساسيا على طاولة النظام الدولي. تواجه هذه الورقة على المدى الطويل تحديا كبيرا. كتب جيم كراين في صحيفة وال ستريت جورنال بتاريخ 3/4/2012 مقالا مهما بعنوان نهاية هامش احتياط النفط السعودي(The End of the Saudi Oil Reserve Margin) وكان محور طرحه أن الخطوات الأخيرة لوضع عقوبات اقتصادية على إيران كشفت عن ضعف إمكانيات المملكة في تغطية عجز خروج النفط الإيراني من الأسواق بشكل كامل، ومن ثم فإن قدرة المملكة كلاعب أول في سوق النفط كما حدث في تغطيتها لإيران بعد الثورة والعراق والكويت إبان حرب الخليج وليبيا خلال الفترة الأخيرة إنما هي قدرة تقل يوما بعد يوم، نتيجة أسباب متعددة داخليا وخارجيا، والنتيجة أنه تقل معها القدرة السياسية المصاحبة لمحدد القوة هذا وما تنتجه من علاقات، وبالأخص العلاقات الاستراتيجية كالتي مع الولايات المتحدة.
ثانيا: التوازن الإقليمي وعلاقات القوة
لمدة طويلة شكلت الولايات المتحدة الموازن الرئيس في علاقات القوة في المنطقة وخلقت بهذا توازنا دفع برغم كل ما فيه من قصور إلى حالة من الاستقرار السياسي العام في النظام الإقليمي. ما تشهده المنطقة اليوم هو نشوء حالة من الفراغ فيها بسبب الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة وضعف قدراتها على التأثير فيه كمدير للعلاقات بين الدول، انسحاب الولايات المتحدة من العراق وما خلقه هذا من فراغ دفع بحالة جديدة من التنافس الإقليمي على رأسه دخول تركيا كلاعب أساسي على المسرح بجانب إيران التي وجدت فرصة أخرى في هذا الفراغ. هذا الاتجاه العام سيعيد خلخلة سياسة الأمن الإقليمي وسيدفع تدريجيا لبناء محاور جديدة في المنطقة تعتمد بشكل كبير على قدرات اللاعبين الإقليميين دون كثير من المؤثرات الخارجية، وكون القدرة الاقتصادية تمثل الورقة الرابحة للمملكة في مثل هذا التنافس تطرح الكثير من التساؤل حول الإمكانات المستقبلية لها في صياغة توازن إقليمي في صالحها.
ثالثا: المشروعية في النظام الإقليمي
ضرب الربيع العربي بعمق فكرة المشروعية في النظام الإقليمي، هذه المشروعية لا تتعلق بالأنظمة الداخلية للدول بقدر ما تتعلق بمشروعية الدول ودورها في المحيط الإقليمي ككل. فالصعود القوي للتيارات الإسلامية بعد الربيع العربي يشكل تحديا لورقة المشروعية الإسلامية لدينا والتي كانت أحد محددات سياستنا الخارجية. وما يزيد من عمق هذا التحول مع الوقت هو اتجاه التغير في النظام العالمي نحو القبول بالمشروعيات الجديدة في المنطقة، فالولايات المتحدة لا تزال تشكل المظلة الدولية الرئيسة في المنطقة، والاتجاه العام في الولايات المتحدة هو القبول بتمديد هذه المظلة لتشمل دول الربيع، مع القبول حتى بتسيد تياراتها الإسلامية فيها، نظرا أيضا لتطابق مفاهيم الربيع العربي مع الاتجاه الغربي العام المتصاعد حول أسس خلق الشراكات والتوازنات الإقليمية. وهي مسألة أشار لها سلطان القاسمي في مقال له بعنوان صعود الجمهوريات العربية (The rise of Arab republics) بتاريخ 26/4/2012 حيث تمحور طرحه حول فكرة عدم استبعاد إعادة التنظيم الجيو-استراتيجي في المنطقة، فعلى سبيل المثال ليست كل الجمهوريات العربية فقيرة، فالعراق وليبيا والجزائر كدول نفطية غنية يمكن لها على المدى الطويل أن تعزز من هذا الاتجاه العام وتمثل نقط ارتكاز جديدة للمظلة الدولية في المنطقة.
هذه الاتجاهات العامة الثلاثة الآخذة في التصاعد والاضطراد مع الوقت تشكل تحدياً حقيقياً أمام سياستنا الخارجية في العقود القادمة. وسوف تستدعي مع الوقت إعادة تشكيل رؤيتنا الاستراتيجية كونها تحديات جيوـ سياسية وبنيوية في الأساس، وليست مجرد تحديات تتعلق بخيارات سياسية. هذه الاتجاهات العامة تشكل مع الوقت منحنى جديدا ستدخله سياسة المملكة الخارجية، ما لم يتم استشراف هذه التغيرات العامة بصورة منهجية سليمة والقيام بخطوات استباقية لإعادة ارتكاز سياستنا الخارجية على محددات أساسية جديدة.