خليل الشريف

لم أطلع على عمل رائع يتحدث عن العبقرية بشكل مجمل وعميق في الوقت نفسه، مثل كتاب (العبقرية مقدمة قصيرة جدا) للكاتب البريطاني أندرو روبنسون.

لقد تطرق لهذا المفهوم المعقد من زوايا مهمة، وعناوين كثيراً ما يتم تداولها بين الناس دون خلفية علمية أو بحثية رصينة.

يطرح روبنسون تساؤله الأولي: هوميروس ودافنشي وشكسبير وموتسارت وتولستوي وجاليليو ونيوتن وداروين وماري كاري وأنشتاين، كل هؤلاء وغيرهم، ما القاسم المشترك بين هذه الشخصيات المشهورة على مستوى العالم في مجالي الفنون والعلم؟.

هذا السؤال يقودنا لمحاولة تحديد تعريف واضح للعبقرية، لكن مع الأسف، لم يتفق العلماء على تحديد مفهوم دقيق وواضح للعبقرية، غير أن ما يشتركون حوله هو أن العبقرية تشير إلى الفرد الذي تبدو عليه قدرات استثنائية عقلية أو إبداعية، سواء كانت هذه القدرات فطرية أو مكتسبة أو كلا الأمرين معاً، مع ضرورة أن يقدم العبقري طرحاً علمياً أو ابتكارياً أو فنياً أو ثقافياً يعمل على إحداث نقلات نوعية في حياة البشر وأفكارهم وممارساتهم. العبقرية وراثة أم مثابرة؟.

هناك حشد هائل من المعلومات المغلوطة حول هذا الموضوع، يعتقد كثير من الناس أن الوراثة لها الدور الأبرز في كون الإنسان عبقرياً! والحقيقة أن العبقرية لا تورث، إنما الموهبة هي التي يمكن توريثها جينياً، والعبقرية هي مرحلة أعلى من الموهبة، لكن الموهبة أيضاً مكون مهم من مكونات العبقرية لازمة لها، وموازية لها، لكنها لا تكفي وحدها لصنعها.. فمما تتكون الموهبة إذن؟ هل هي قدرة متوارثة؟ أم شغف؟ أم عزم وإرادة؟ أم قدرة على المثابرة والمران؟ أم سرعة استجابة؟ أم أنها مزيج من كل ما سبق؟.

تؤكد العديد من الدراسات العلمية الواردة في الكتاب أن عزو الموهبة للجينات الوراثية يعد عاملا ضعيفا، ولا يشكل الفارق الذي يحدث العبقرية، وأن أكثر الدراسات النفسية حول هذا الموضوع تشير إلى أهمية العوامل الأخرى غير الجينية مثل الشغف والاستمرارية والممارسة والمران والتصميم والتوجيه.

حيث تؤكد دراسة (إليانور- 2000م) على أن دماغ الإنسان مطواع ويتغير بشكل كبير من خلال التمرين والتعلم والخبرة، إذا سلمنا بتوفر الحد الأساسي للذكاء، والذي يخضع بشكل أكبر للعامل الجيني. العبقرية والأسرة أحد أكثر الأنماط إثارة للاهتمام بين العباقرة يتعلق بفقد أحد الأبوين في سن مبكرة، فقد كشف مسح أجراه العالم النفسي (جيه مارفن عام 1978م) على 699 من أشهر الشخصيات التاريخية البارزة، وجد أن 25% من هذه الشخصيات قد فقد أحد أبويه على الأقل قبل سن العاشرة، و35% قبل سن الخامسة عشرة، و40% تقريباً قبل سن العشرين.

وقد تشابهت نتائج هذه الدراسة مع دراسة سابقة كانت أكثر دقة أجراها (آن رو عام 1953م) على كبار علماء أمريكا، والذي أشار في أغلب الحالات إلى أن وفاة الأم أو كلا الوالدين بحلول سن الخامسة عشرة تكرر بنسبة 26% (الثلث تقريباً)، مقارنة بنسبة 8% بين الأفراد العاديين من جملة السكان. وتشير دراسة استقصائية أخرى إلى زيادة عدد المبدعين الذين عانوا طفولة محرومة عن أولئك الذين حظوا بطفولة مشجعة، إذ كشفت دراسة أجريت على 400 شخصية تاريخية بارزة نشرها العالمان النفسيان (فيكتور وميلدريد جورتزول عام 1962م) أن 75% من هذه الشخصيات البارزة ذاقوا مرارة التفكك الأسري والرفض من جانب آبائهم، كما كان أكثر من واحد من بين كل أربعة منهم يعاني إعاقة جسدية ما. وكشفت دراسة أحدث لنفس العالمين على 300 شخصية بارزة أخرى عن أن 85% منهم جاءوا من أوساط أسرية شديدة الاضطراب.

وجاء في دراسة (آر إيه أوكسي)، التي تناولت محددات العبقرية استنتاجه التالي: «استناداً للشواهد يستطيع المرء أن يفترض بدرجة وافرة من اليقين أن أغلب المبدعين عانوا بعض الحرمان والحزن خلال طفولتهم، بعضهم فجع في والديه، وبعضهم عانى إحساس الرفض، وبعضهم رُبي تربية صارمة، وبعضهم تعرض لاضطرابات عاطفية أو لانعدام الأمن المالي أو للإيذاء البدني، وبعضهم عانى الإفراط في الحماية أو الوحدة أو عدم الأمان، وبعضهم كان قبيحاً أو مشوهاً أو يعاني إعاقة جسدية ما، وكثير منهم عانى مجموعاً من هذه البلايا».

إنها لفكرة مخيفة أن نعتقد أن العبقرية تترعرع في مثل هذه الظروف القاسية والمتطرفة، ولذلك كانت هناك دراسات أخرى تؤكد وجود عدد من المبدعين والعباقرة كانت الظروف الإيجابية التي عاشوها في محيطهم الأسري السبب الأكبر لتفوقهم، على سبيل المثال ما من شك أن ليوناردو دافينشي عانى أقصى درجات الإهمال من جانب والديه، فقد تخلى عنه والده ووالدته في صغره، لكن يستثنى من ذلك ما اتخذه والده من خطوة أثرت بالغ التأثير فيما بعد على مسار دافنشي حينما قدمه خلال سنوات مراهقته إلى الفنان أندريا ديل وألحقه بمرسمه.

ومن ناحية أخرى، نال الموسيقار العبقري موتسارت تدليل أبيه وأمه وأخته خلال كل لحظه عاشها في طفولته، وبفضل ما كان والده يقدمه طوال الوقت من تحفيز وتعليم نالت موهبة موتسارت الموسيقية كل تشجيع ممكن كي تزدهر.

ويحتل أنشتاين مكاناً ضمن الفئة الوسطى، حيث لم تكن أسرته تفرط في إهماله أو تشجيعه، بالتالي يؤكد روبنسون قائلاً: «بدلاً أن نصنف العباقرة إلى فئة حظيت بطفولة مشجعة وفئة أخرى عانت طفولة محرومة من الأصح أن نقول إن إبداعهم ينبع على ما يبدو من نوع من التوتر أو الصراع بين التشجيع والحرمان».

العبقرية والتعليم لم يكن غالبية العباقرة ممن تلقوا تعليماً مدرسياً نظامياً، وأبرز أولئك الموسيقار موتسارت، والفيلسوف جون ستيوارت.

ولو عدنا للوراء في ازدهار التاريخ الإسلامي نجد أن أبرز علمائه وعباقرته كالبخاري، وابن حنبل، وابن القيم، وابن تيمية، وابن رشد، والمعري، وسيبويه، والجاحظ، والمتنبي، والسيوطي، وغيرهم لم يكونوا خريجي أنظمة تعليمية معينة، بل كان تعليمهم يعتمد على ملازمة العلماء والتعلم الذاتي والتعلم مدى الحياة.

كما أن العديد من عباقرة القرن السابع والثامن عشر وصولاً إلى القرن العشرين لم يلتحقوا بالجامعات، ومن التحق منهم بها لم يحصلوا على مكانة مميزة فيها!. وقلة قليلة منهم هم الذين قطعوا شوطاً طويلاً في التعليم العالي بالحصول على درجة الدكتوراه.

يقول تشيكسنتميهاي في بحثه الذي يحمل عنوان (الإبداع التدفق وسيكولوجية الاكتشاف والاختراع): «من المستغرب للغاية مدى ضآلة التأثير الذي مارسته المدرسة على حياة الأشخاص المبدعين، تُرى إلى أي مدى ساهمت المدارس في إنجازات أنشتاين أو بيكاسو أو تي إس إليوت؟ إن سجل المدارس قاحل للغاية في هذا الصدد، لا سيما بالنظر إلى الكم الكبير من المجهودات والموارد والآمال التي تهدر في نظامنا التعليمي الرسمي».

تروي أخت العالم أنشتاين أن بحث النظرية النسبية الذي أعده أنشتاين، ويعتبر أبرز إسهاماته العبقرية في الفيزياء تم رفضه في البداية مرتين من جامعة زيورخ، وقالت: «إن بحثه في هذه النظرية بدى غريباً بعض الشيء بالنسبة للأساتذة أصحاب قرار البت في قبول الأبحاث»، وكما يقول تشيكسنتميهاي في بحثه السابق: «إن تأثير المدرسة أو الجامعة -إن وجد بالأساس- كان هو التهديد بإخماد جذوة الشغف والفضول عند المتعلم».

وبعد أن تقاعد عالم النفس هانس آيزينك أطلق رصاصة الوداع على النظام الأكاديمي في بحثه (العبقرية: التاريخ الطبيعي للإبداع)، حيث قال: «إن أفضل خدمة يمكن أن نسديها للإبداع هو أن ندعه يزهر دون عرقلة، ونزيل كل العوائق التي يمكن أن تعترض سبيله، وأن نرعاه أينما وحيثما وجدناه. نحن على الأرجح لا يمكننا ترويضه، لكننا نستطيع أن نحول دون تعرضه للخنق بفعل القواعد والأنظمة وعدد من الحاسدين أصحاب القدرات المتوسطة».

العبقرية والجنون يتردد الربط بين العبقرية والجنون بشكل ملفت للنظر، ما أصل هذه الفكرة؟ ولماذا يحدث شكل من أشكال الربط بينهما من الأساس؟ لعل ذلك يعود لتواتر القصص حول عدد من العباقرة الذين عصفت بحياتهم الأمراض العقلية والنفسية، وفكرة الربط هذه لها تاريخ طويل وحافل، إذ يروى أن أرسطو سأل تلاميذه: لماذا كان الرجال البارزون في الفلسفة أو الشعر أو الفنون سوداويين؟.

في التاريخ الحديث تجسد حياة الفنان العبقري (فان جوخ) أحد أكثر الأمثلة لارتباط العبقرية بالجنون، لقد كان مريضاً عقلياً، وعانى اكتئاباً حاداً، وقطع إحدى أذنيه عام 1888م وقدمها لفتاة بائعة هوى! ودخل المصحة العقلية فترة من الزمن، ثم أنهى حياته عام 1890م، بعدما أطلق النار على نفسه، وسيظل التعايش المدهش بين مرضه العقلي وإبداعه الاستثنائي أمراً صعب التفسير والفهم. ويشير استطلاع أجراه الطبيب النفسي فيليكس بوست في تسعينيات القرن العشرين، استند فيه إلى حياة 291 مبدعاً استثنائياً توصل إلى استنتاج مفاده «وفق معايير التشخيص الحديثة، عانى أنشتاين وفاراداي درجة معتدلة من المرض العقلي، وعانى داروين، وباستير درجة ملحوظة من المرض العقلي، وعانى بور وجالتون من درجة حادة من المرض العقلي، إلى جانب عدد آخر من كبار العلماء».

وفي مسح آخر للسير الذاتية تناول 36 شاعراً استثنائياً من أبرز شعراء بريطانيا وإيرلندا الذين ولدوا بين عامي (1705- 1805م) توصلت الباحثة كاي جاميسون لما يلي: انتحر شاعران من مجموعة المسح، وأودع ستة منهم المصحة العقلية، وظهر على أكثر من نصفهم شواهد قوية تدل على اضطراب المزاج.. وظهر أن نسبة احتمال إقدام الشعراء الاستثنائيين على الانتحار تفوق نسبتها عند عموم الناس بخمس مرات، وأن احتمال إيداعهم المصحة العقلية أكثر من غيرهم بعشرين مرة، وأن احتمال إصابتهم بمرض الهوس الاكتئابي أكثر بثلاثين مرة!! لكن دراسات أخرى جاءت بنتائج مناقضة، حيث أجرت الطبيبة النفسية نانسي أندرياسن في أوائل السبعينيات من القرن العشرين دراسة على عدد من الكتاب المشهورين الاستثنائيين عددهم 30 كاتباً، وخرجت بالاستنتاجات التالية:

كانوا جذابين مرحين لبقين ومنضبطين، وجدول عملهم اليومي متشابه، يحبون الكتابة اليومية المنتظمة، ويفضلون فترة الصباح لإنجاز أعمالهم الإبداعية، وكانت لهم علاقات وثيقة بالأصدقاء والعائلة.

وهنا يذكر مؤلف الكتاب روبنسون «من المستحيل تأكيد وجود ارتباط قاطع بين المرض العقلي والعبقرية في الوقت الحاضر، وعلماء النفس والأطباء النفسيون متباينون للغاية في تقييمهم لهذا الأمر، وكلهم متفقون مع مقولة شكسبير على أن هناك شيئاً ذا علاقة بالجنون يمكن أن يثري فهمنا للعبقرية، لا سيما لدى الشعراء».

لذلك يمكن أن نتبنى الفكرة التي عززها آر أوكسي عندما قال: «يبدو أن التصور القديم بأن العبقرية ترتبط بالجنون لم يكن عارياً تماماً عن الصحة، حتى إذا كانت بعض التفسيرات التي قدمت في هذا الصدد عقيمة».

العبقرية والإلهام كم مرة سمعنا أن العالم العبقري إسحق نيوتن اكتشف مبدأ الجاذبية عندما جلس تحت شجرة وسقطت أمامه -أو على رأسه- تفاحة! مثل هذه القصص كثيرة ومتكررة في تاريخ المبدعين، إنهم يتحدثون عن لحظة من الإلهام تأتي فيها الفكرة المبدعة دون سابق إنذار، ولكن مهلاً.. هل تحققنا من هذه القصص؟! إن تفاحة نيوتن أحد أكثر الأباطيل تاريخية في هذا الشأن.

فقد كان نيوتن طوال فترة شبابه يدرس الرياضيات والقوانين، ويحاول فك شفرات الحركة والقوى بأشكالها المختلفة، لقد ركزت القصة على إلهام لم يذكره هو شخصياً، ولم يدونه، ولم يخبر به أحداً على الإطلاق، وتناست أنه أفنى عمره في دراسة هذه الظواهر، ومن الطبيعي أن يصل إلى نتيجة. رغم ذلك لا يمكن اعتبار هذه الطرائف التاريخية مجرد أباطيل، لأن هناك روايات عديدة وموثوقة أحياناً عن ومضات من الإلهام وردت على ألسنة العلماء والعباقرة.

يضاف إلى ذلك أنها تتوافق مع تجربتنا الشخصية، فجميعنا يعلم أن الأفكار الجيدة تبرق دون سابق إنذار من محادثات عارضة، أو علاقات تصادفية، أو شطحات خيالية، وأحياناً من عوامل غير عقلانية كالأحلام مثلاً.

من ناحية أخرى يؤكد روبنسون فيقول: «الأمر برمته لا يشكله الإلهام وحده بأي حال من الأحوال، فقد يبدو أن فكرة عظيمة هبطت على المرء، لكن قبل ذلك يبدو أن العقل قد هيأ نفسه من خلال دراسة وممارسة طويلة».

يوضح ذلك أكثر مقولة لوي باستير «عندما يتعلق الأمر بالملاحظة فالصدفة لا تختار إلا العقل المستعد»، وجميع المخترعين والمكتشفين ظلوا غارقين فترة طويلة في التفكير في مشكلة من مشاكل المجال الذي برعوا فيه، حتى حققوا إلهاماً أو اكتشافاً استثنائياً في نهاية المطاف. في دراسة أجراها (جون هايز عام 1989م) استنتج منها أن أغلب المبدعين والعباقرة والمفكرين استمروا على المواظبة والدراسة والعمل في المجال الذي أبدعوا فيه مدة لا تقل عن 10 سنوات، حتى حققوا فيه إنجازاً استثنائياً، بل إن بعض أفراد عينة الدراسة أمضى أكثر من ذلك حتى عشرين سنة.. وهنا خرج جون هايز بقانون العشر سنوات، والذي اعتبره قانوناً للإبداع. ويؤيد هذا الطرح المقولة الشهيرة للعبقري الشهير أديسون الذي ذكر أن الموهبة والعبقرية تمثل 1% إلهاما، و99% جهدا ومثابرة.

ولو ربطنا هذه المقولة بقانون الإبداع لهايز يمكن أن نمنح الفرد عن كل عشر سنوات (120 شهراً) من العمل الشاق قيمة شهر أو شهرين من الإلهام المفاجئ!.

قد يكون هذا محبطاً في جانب منه، لكنه أيضاً قد يعني أن ما من عبقري على مر التاريخ -ولا حتى أنشتاين ودافينشي وموتسارت وأديسون- تسنى له اختصار المسار الطويل والتدريجي نحو الإنجاز الإبداعي.