أتذكر دائما ما تصول وتجول به صالات الدراسة وأروقة الجامعات في فصول الصيف التي كنا ننتظرها بشوق، فكان هناك ما يسمى بالنشاط الصيفي، حيث تقام المراكز الصيفية، وكنت حينها طفلة حيث يسمح لمن هم في مثل سني بالاختلاط، وربما المشاركة في هذا المركز أو ذاك. وكان مناخ أبها الرائع يساعد على الإبداع في المسرح وفي القصة والشعر والتدريب والتنفيذ في كل شيء، كما أنه يترتب على ذلك مكاسب ودخل مادي لكثير من العاملين، فتنتعش الحالة المادية والثقافية والفنية بالإضافة إلى شغل الفراغ المدمر للشباب. فتتحول مدارسنا إلى خلية دؤوبة للإبداع، ثم تقام معارض لما صنعناه بأيدينا تتخللها العروض المسرحية، على المستوى النسوي والرجالي، ولذلك أنتجت هذه السنوات مبدعين ومثقفين هم خيرة رجالنا اليوم.
وقد أعلن وزير التربية والتعليم الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد ـ خلال ندوة الحوارات التنموية تحت عنوان الشباب والتنمية قضايا وطموحات ـ عن العام الدراسي المقبل ومزاولة 10 مدارس لمفهوم النشاط اللاصفي بعد نهاية الدوام خلال الفترة من الساعة الثانية ظهرا إلى ما بعد العصر، وتعتمد في الأصل على إشراك الحي الذي يسكن به الطالب مع وجود المعلم والأسرة في إدارة المدرسة ذاتيا.
إن ذلك هو أقرب إلى النشاط الصيفي الذي كنا نحتفل به، وبطبيعة الحال سينتج لنا جيل مبدع بالإضافة لشغل الفراغ وتشغيل الشباب، وهذه خطوة جادة من قِبَل وزير التربية والتعليم ورجاله، بالرغم من غياب وزارة الشباب عن هذه الندوة، فعنوان الندوة التنمية والشباب قضايا وطموحات والذي تشكل فيه هذه الوزارة محورا هاما في الإقناع والاقتناع، لشباب معطش للعمل وللتفعيل وإلى خوض غمار التجربة وهو في مرحلة الشباب لكي يصل إلى مرحلة النضج ومدارات خبرة تؤهله للعمل القيادي وإلى تفعيل الدور واتخاذ القرار. فكيف يتأتى لشبابنا قيادة المستقبل ثقافة وبناء وهو لم ينغمس في حبر التجربة، وخوض غمار معاناة العمل وآلياته ثم التدرج الطبيعي في مراكز اتخاذ القرار؟ فهو من يقضي جل وقته في البحث عن إناء لتفريغ الطاقة، وما أكثر الآنية التي تحمل سوائل هلامية تعمل على انزلاق القدم دون سابق إنذار. ويبدو أن صانعي القرار قد تيقنوا لما يترصد لشبابنا من مزالق وأولها الفراغ، فأعلنوا عن قرب مزاولة النشاط اللاصيفي، إلا أن الفترة التي حددت لهذا النشاط قد لا تكفي لتفريغ الطاقة ومزاولة أنشطة وتدريب على الإدارة التي يجب أن تفجر طاقات مبدعة في كثير من المجالات، حيث إنها تبدأ بعد نهاية الدوام في الثانية بعد الظهر وتنتهي بعد صلاة العصر. فأي نشاط وأي إبداع لا يجد من الوقت سوى ما يقرب من الساعة والنصف؟ إلا أن الأمر قد يكون مقبولا ما دام في طور التجربة، مما يوجب علينا تعاطي الثقافة وآليات التفعيل بشيء من التلاقي الفكري القائم على الحوار البناء، لكي تتلاقى المؤسسات مع الفئات العامة في بؤرة الفهم الذي يخدم تفعيل وتنفيذ هذه المشاريع، والتي بدأت المؤسسات في تنفيذ جانب كبير منها، فالحوار هو اللبنة الأولى في التفعيل والتنفيذ، إلا أن هذا الحوار لا يزال يصطدم بصخرة الاختلاف الناتجة عن أزمة الثقة، حيث شدد الأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني فيصل بن معمر على وجود أزمة ثقة تكتنف الحوارات الدائرة في المملكة.
هذه الأزمة هي ما تفقد الحوار نقطة التلاقي فتضيع الجهود في المفازة بالرغم من أن صالح الأنصاري وهو المدير التنفيذي للاستراتيجية الوطنية للشباب بوزارة الاقتصاد والتخطيط يقول:
الاستراتيجية الوطنية للشباب تأخرت قليلا لكنها وصلت بمشاركة 8 جهات حكومية اجتمعت منذ سنتين وما زلنا نعمل عليها، انتهينا من التخطيط والآن سنبدأ التنفيذ.
مما ينبئ بتطور فعال في حل هذه المشكلات فيما إذا تلاقت الأفكار، واتخذ الحوار منبرا عاليا في فهم وتلاقي المسارات الفكرية. كما أن هناك حملا ثقيلا يقع على عاتق الباحثين والأكاديميين في البحث والتنقيب وحل المشكلات وسبل الإبداع والارتقاء بمستوى الخطاب شريطة أن تجد أبحاثهم وأوراقهم مدرجا على ساحة الثقافة والعمل، ومن أصعب العقبات التي تواجه الباحث هي أزمة التفرغ، إذ إن الباحث أو المبدع في أي مجال في كثير من البلدان يحصل على منحة تفرغ مع تحدد زمن معين من قبل الوزارة المعنية لمجاله هذا ثم متابعة إنتاجه حسب الزمن المحدد ويحاسب على هذا، فينشط الباحثون والمبدعون تحت ظل الرعاية المؤسساتية، وعلى سبيل المثال حينما استشعرت سويسرا نبوغ فردرش دورينمات خصصت له منزلا وراتبا وخدما لكي يتفرغ للإبداع، فأصبح دورينمات كاتبا مسرحيا تتجاذب ألمانيا وسويسرا طرفي الصراع على جنسيته، وأصبح منزله ذلك متحفا لرواد المعرفة، ولو أُّلقي بدورينمات على قارعة الطريق لتفرغ للقمة العيش ولم يضع اسم دولته في مصاف الدول المتقدمة لهذا الإبداع، ولم يكن دورينمات الوحيد الذي تلقى الرعاية بل جل مبدعي عصره ومنهم ماكس فريش، وروبرت. ت. فالسر، وأديبتين آخرتين حصلتا على جائزة نوبل في الأدب.
إذاً، كيف يتأتى لنا الإنتاج بجميع محاوره في سيل هلامي يخلط فيه الحابل بالنابل؟ فيتلاشى الوعي المجتمعي وتنفصم عرى الحوار، فيصرخ الشباب ثقتنا منقوصة وهذا أهم ما في الأمر. إن العملية برمتها تتمثل في عملية الأواني المستطرقة بداية من الأنشطة الصيفية وانتهاء بالإنتاج الفكري والثقافي ورعاية الشباب والمبدعين في جميع المجالات، حينها لن يشكو المعنيون من أزمة الحوار، لأن للثقة دوائر يجب أن تتقاطع وألا تكتفي بالتماس.