مشكلتنا الرئيسة تكمن في تنمية الإنسان وليس في التنظير، لأن الحصول على آخر ما توصل إليه علماء الأرض (نظرياً) أمرٌ سهل، ولكن الصعوبة تكمن في كيفية ومن يطبق هذه النظريات؟!

نظريات التعليم والتعلم تجعل من القراءة والكتابة أساسيتان لانطلاقتها ومحوراً هاماً لها، لذلك يستغرب كثير من الآباء من أبنائهم عندما يتخرجون من المرحلة الابتدائية وهم لم يتعلموا في تلك المهارتين ما يشفع لهم بأن يكونوا (مُتعلمين) ودرسوا ست سنوات تحت وطأة تجربة (التقويم المستمر)، تلك المخرجات جعلت من طلابنا أرقاماً من (1 – 4) وكل رقم يمثل الطالب (نفسه) ومستواه الدراسي ومكانته العلمية.. ثم تأتي الصدمة لمعلمي المرحلة المتوسطة ليدفعوا فيها ضريبة تركة ضخمة، وحصصاً دراسية من الشكوى والضغط النفسي ورد الاعتبار للمعرفة، لأن (كثيراً) من هؤلاء الطلاب لا يستطيعون حتى القراءة أو الكتابة وأبجدياتها.. ليرد عليك أحدهم أنا كنت رقم (1) في المرحلة الابتدائية!
التقويم المستمر من الناحية النظرية نظامٌ عالمي جيد وله دور فعال في دعم العملية التعليمية، وعند تفكيك إيجابياته المطبقة (لدينا) تجدها بكل بساطة تتوافق مع ما ذكره كثير من الزملاء في الميدان التربوي وفي إيجابيتين: خفض رسوب الطلاب، وتراجع قلقهم من الاختبارات، وتركنا الباقي لأننا تجاهلنا الأهم المنحصر في تطبيقه الخاطئ والذي أفرز سلبيات عديدة في رصد أدواته وسبر أغواره بالمفاهيم الصحيحة، والتي اكتشفها الميدان التربوي ومؤشراته بدءاً من المعلمين وأولياء الأمور واتجاهات الرأي العام منذ إعلان أوائل مخرجاته بعد أن أقرت وزارة التربية والتعليم تطبيقه في الصف الرابع بداية من عام 27-1428، وقد سبق تطبيقه فيما قبله على مرحلة الصفوف الأولية، ثم توسعت في تطبيقه على جميع المرحلة الابتدائية.
في لقاء سابق ضم كثيراً من مهتمي التربية لدينا ومتحدثين آخرين بعنوان التقويم المستمر.. معايير ومؤشرات، تجد فيه أن وزارة التربية والتعليم ما زالت متمسكة باستمرار تطبيق نظام التقويم المستمر، رغم الاعتراف بما يحيط به من سوء تطبيق، الأمر الذي قصر تنفيذه على مدارس المرحلة الابتدائية في الوقت الحالي – حسب نظرتهم - لحين انتهاء الدراسة التي كُلف بها أحد الاستشاريين لتقييم التجربة، التي مضى على تطبيقها ست سنوات.
وما لفت انتباهي نقطتان أولهما: إصرار الوزارة على استمرار تطبيقه رغم إخفاقهم في تطبيقه جملةً وتفصيلاً حسب تصريحات مسؤوليها، وثانيهما تسليم الوزارة مسبقاً بنتائج الدراسة التي سلمتها لبيت (خبرة) لا نعرف حدوده التربوية أو إمكانياته مما يجعلنا نتساءل أين دور الجامعات السعودية وكليات التربية تحديداً حتى تعمل وزارة التربية والتعليم بمعزل كامل عنها!
أما ثالثهما فهو الأهم.. لماذا تم التوسع في تطبيق التقويم المستمر على الفصول العليا من المرحلة الابتدائية دون دراسة وافية له ولمخرجاته في مرحلة الصفوف الأولية..؟
التقويم المستمر أيتها الوزارة يمر بمعوقات عديدة من وجهة نظري بدءاً من عدم وضوح بعض أهداف التقويم المستمر وإجراءاته وأساليبه وأدواته لدى المجتمع السعودي بدءاً من ولي الأمر والتلميذ (العنصر الأهم) وينتقل ذلك على صعيد الميدان التربوي، فالمعلمون يحتاجون بالمقام الأول إلى إمكانات عالية بدءاً من (القناعة) أولاً بتطبيقه، ثم فهم أهدافه، والمعرفة و(الإخلاص) لتطبيقه في الواقع بعيداً عن استمرارنا في التدريس بطرقنا التقليدية التلقينية البائدة التي لا تتناسب اليوم مع أي من عمليات التعلم أصلاً، وقد لا نستغرب ذلك لأن كثيرا من معلمينا يعانون ضعف التأهيل أصلاً في برامج (التقويم) أو في عملهم في الميدان التربوي لعدم وجود آلية أو مرجعية في كيفية تطبيقه حتى الآن فكثير من المعلمين يعانون من ذلك، وعندما يعودون للمشرفين التربويين فتجدهم أكثر عناءً! ومرد ذلك كله إلى عدم وجود مرجعية متخصصة في (القياس والتقويم) في مجمل إدارات التعليم.
أما كثرة أعباء المعلم وعدد التلاميذ داخل الفصول الدراسية فهذه معضلة كبيرة فجعت خبير جامعة مانشستر البريطانية الدكتور وليم فرانسس بويل عندما ألقى ورقة علمية في مؤتمر سعودي سابق عن التقويم المستمر وعلم بوجود نحو 50 طالباً في بعض الفصول الدراسية في المملكة ذاكراً: يعتبرذلك شيئاً مخيفاً ويؤثر على عملية التقويم.. وتجربة التقويم المستمر في المدارس السعودية تواجه صعوبة في عملية التطبيق لتعقدها وتشابك مصالحها، وهناك حاجة ملحة لتدريب المعلمين على التقويم المستمر بشكل دائم لتحسين العملية التعليمية للطلبة...
التقويم المستمر بشكله الحالي وتطبيقه الممارس بالمدارس هدرٌ تعليمي واضح في المخرجات، لتنتقل تلك المخرجات لمرحلة تعليمية أخرى والتي ستقضي جزءاً كبيراً في معالجته والبدء في إعادة التعلم من جديد في كثير من المواد أو المهارات، وهي تذكرني هنا بما وصفه الدكتور عبدالله السعدوي أحد مسؤولي المركز الوطني للقياس والتقويم في التعليم العالي عن آثار تطبيق قرار التقويم المستمر بالورم السرطاني الذي أدخل إلى جسم العملية التعليمية دون تأهيله!
كلنا أمل أن يتم البت في تحديد مسار استمرار التقويم المستمر من عدمه والبحث كذلك عما يعيد للتعليم توازنه قبل فوات الأوان، وتلك مشكلتنا الرئيسة عندما نتوقف عن تنمية الإنسان والاهتمام في التنظير الذي لا يمثل مشكلة لنا الآن لأن الحصول على آخر ما توصل إليه علماء الأرض (نظرياً) أمرٌ سهل ولكن الصعوبة تكمن في كيفية ومن يطبق هذه النظريات؟!