في لقاء تلفزيوني تحدث د. سعد بن طفلة العجمي وزير الإعلام الكويتي الأسبق عن وجود ثلاث مدارس في الفكر العربي، ثم وصف المدرسة الأولى بالسلفية التقليدية ونسبها للإخوان المسلمين!! وأن شعارها «الإسلام صالح لكل زمان ومكان» ونسب هذا الشعار إلى حسن البنا! ومدرسة أخرى ترى التوفيق بين الحداثة والتراث، أو بعبارته «يحدثن التراث»، ومدرسة أخرى ترى القطيعة المطلقة مع التراث! ثم خلص إلى أنه لا حل أمام هذا الاختلاف في المدارس إلا فصل التعليم عن الدين وقد عبر عنه بعبارة «علمنة المناهج»!
والحقيقة أن الوصول إلى هذه النتيجة الخطيرة بهذه المقدمات التوصيفية الناقصة لا يمكن قبوله بحال، وذلك لعدة اعتبارات، أولها: أن المقدمات التي ذكرها وتوصل بها إلى هذه النتيجة غير صحيحة علمياً، وثانيها: أن توصيفات المدارس- التي أوردها- غير كاشفة للخلفية الفكرية التي تتكئ عليها هذه المدارس، ولنبدأ بالمدرسة الأولى وهي السلفية التقليدية، وقد نسبها للإخوان المسلمين، ثم وصفها بشعار «الإسلام صالح لكل زمان ومكان»! وهذا التوصيف غير صحيح مطلقاً، فالإخوان كحزب سياسي اليوم لا ينتمي للسلفية لا من قريب ولا من بعيد، بل هو رأس الحربة أمام الفكر السلفي، وسأذكر هنا أهم فرق مؤثر يتعلق بالتعامل مع النصـ لأن سياق حديث الدكتورـ كما يبدو - في المدارس التي تتعامل مع النص- فالمدرسة السلفية تعتني بالاتباع للنص، ولذلك يكثر في أدبياتها النهي عن الابتداع والتحذير من مخالفة ما كان عليه السلف، بينما المدرسة الإخوانية هي مدرسة تأويلية بامتياز، فهي تلتزم منهج التأويل مع كل النصوص التي لا تتفق مع مشروعها السياسي، ومسألة رفع شعار الخلافة أو شعار أن «الإسلام صالح لكل زمان ومكان» لا تعدو أن تكون شعارات ذرائعية معروفة تهدف إلى الوصول إلى السلطة، بقصد تعبئة الجماهير وحشد الشارع! هذا في مسألة التعامل مع النص، فكيف لو استعرضنا بقية الفروق وهي فروق جوهرية ومهمة من مثل مسألة أصل الجماعة والإمامة، فالسلفية تعد هذا الأصل أمراً مستقراً في الشريعة لا يجوز نكثه والتهوين من شأنه، بينما في المدرسة الإخوانية يتم نقضه والتهوين من شأنه بشكل مستمر، بل واستغلال أي فرصة لإسقاطه وتحطيمه، ونحو ذلك من الفروق، فهذا التوصيف إذن خطأ ولا شك وهو أفضل هدية تقدم للمشروع الإخواني بنسبته إلى السلفية!
أما المدرسة الأخرى، وهي التي ترى التوفيق بين «الحداثة والتراث»، فهي مدرسة تأويلية، تتخذ من التأويل حلاً لمشكلة التوفيق بين «الحداثة والتراث»، وهي مدرسة لا تختلف عن مدرسة القطيعة مع التراث في هذا الجانب، إذ إن هذا التأويل يفضي- في الأخير- إلى تعطيل النص وتصميته، لكن بدلاً من أن ترده تلجأ إلى تأويله، وهؤلاء المشكلة عندهم من جهة أصل الرؤية ومبدأ الاشتغال، إذ الأصل عندهم هو العقل وليس النص، بمعنى أن الانطلاق في الرؤية هي من العقل إلى النص وليس من النص إلى العقل، وهذا يعني أن الإشكال ليس في ذات النص وحمولته الدلالية، وإنما في كيفية استقبال النص ابتداء من جهة المشروعية والاحتجاج! وقد عبر عن هذا المعنى القاضي عبدالجبار المعتزلي في «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» بأننا «إذا وجدنا في كتابه (يعني القرآن) المحكم والمتشابه عرضنا ذلك على ما ركبه في عقولنا، لنحمل أحدهما على وفاق الآخر..»، وإذا سلمنا بهذا الحل فسندخل قطعاً في جدل نسبية العقول وتفاوتها و(مصيدة) التجويز العقلي الذي تنتهي إلى العبثية والعدمية.
والمدرسة الأخيرة التي عبر عنها بالقطيعة بين الحداثة والتراث فهذه مدرسة لا يمكن بحال حسبتها ضمن مدارس الفكر العربي والإسلامي، لأنها مدرسة مستوردة، وهي مدرسة عدمية تؤول قطعاً إلى الإلحاد، فإذا كانت لا تعترف بالنص أصلا وترى– في أقل مدارسها تطرفاً- بأنه نص تاريخي أو إنساني (أنسنة النص) فماذا بقي لها إذن من سبب يوصلها بالإسلام؟ وهي في أصلها تستمد أدواتها من منهج الفلاسفة في قراءة نصوص الكتاب المقدس، وتحاول أن تعيد نفس الصراع الذي حصل بين (اللاهوتيين) والفلاسفة، فالأولون يرون أن نصوص الكتاب المقدس نصوص مقدسة، وفهمها موقوف على «إشراقات وإلهامات يلقيها الرب في صدور الملهمين» والفلاسفة يرون أنه يجب إخضاع هذه النصوص للتحليل العقلي والمنهج التاريخي، وهي محاولة فاشلة ولا شك، ولا يصدقها إلا من يجهل أدوات السلف في التعامل مع هذا التراث العظيم، وقد كان محمد المزوغي في كتابه «إسلاميات أركون» صريحاً جداً في التعبير عن أدوات هذه المدرسة العدمية وغاياتها، فكتب صراحة بأنه لا حل أمامنا إذا أردنا أن نسير في ركب الحداثة إلا بالقطيعة التامة مع التراث، والتعامل مع النصوص على اعتبارها نصاً بشرياً قابلاً للخطأ والصواب، ثم ذهب يستعرض نصوص القرآن ويحكم عليها بالخطأ والكذب! تقدس كتاب ربنا عن هذا الإلحاد- وأعتقد أنه رغم إلحاده وجسارته على النص فإنه كان صريحاً في توصيف هذه المدرسة، بدلا من أن نكتفي بوصفها بالقطيعة وأنها تأخذ من النص جوهره– بحسب وصف د سعد بن طفلة!! فهذا فقر كبير في التوصيف، وهذا الخلل في توصيف المدارس وحصرها في هذه الثلاث خطأ ولا شك، ويكفي أن الدكتور سعد ترك المدرسة السلفية الحقيقية ولم يعرج عليها بحال، وما ذكره من توصيف للمدرسة السلفية في البداية فهو قطعاً يعني مدرسة الإخوان بدلالة توصيفه لها وأن زعيمها حسن البنا، فهو بالتالي يقصد المدرسة الإخوانية، أما المدرسة التي لم يعرج عليها د. سعد ولم يحم حولها، ولا أدري ما السبب! فهي المدرسة السلفية، وقد سميتها هنا «مدرسة» مجاراة للتقسيم الذي ذكره في بداية حديثه، وإلا فهي مختلفة عن تلك المدارس بأنها ليست حزباً أو طائفة أو فرقة، بل هي منهج مستمد من ميراث النبوة، وقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- بـ«المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك»، وهو منهج يقوم في عماده وأساسه على معنى الاتباع «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» فكل ما أشكل علينا من منهج أو توجه أو تصرف أو موقف يمكن بسهولة أن نتبين وجه الحق فيه إذا عرضناه على هذا الميزان الدقيق، وهذا ممكن ومقدور عليه لمن تفقه في الوحي المعصوم، إذ هو ليس منهجاً هلامياً أو سريالياً خيالياً، بل هو منهج واقعي عملي، وله سمات محددة وعلامات ظاهرة، وسأذكر هنا أهم هذه السمات والعلامات:
أولها: محاربته للخرافة والوهم، فلا يوجد منهج يحارب الخرافة ويكافح مصادرها كما يفعله هذا المنهج، فهو يحارب البدعة والخرافة مستنداً على النص الثابت «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، ولهذا كان أصحاب الطرق الخرافية والفرق البدعية ألد أعداء هذا المنهج وأكثر الناس تشغيباً عليه.
ثانيها: توظيفه للعقل توظيفاً صحيحاً، فهو كما أنه يعظم النص ويطرح كل الأقاويل والآراء والاجتهادات على عتبة النص، حاديه في ذلك قول الحق تبارك وتعالى «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» فهو في ذات الوقت يحترم العقل ويجريه في مساره الصحيح. ولهذا تأثر بهذا المنهج بعض الشخصيات التي تدعو للعقلانية، لأنهم رأوه منهجاً يحترم العقل وفي الوقت نفسه يؤمن بالغيب.
ثالثاً: تثبيته أصل الاستقرار في المجتمعات المسلمة، وموقفه الصلب من العنف والإرهاب، فهو صمام المجتمعات وحرزها، لأنه يعظم هذا الأصل (الجماعة والإمامة) ويهمه في المقام الأول حياة الناس وأرواحهم، ولهذا لا ترى أصحاب هذا المنهج في صفوف الثائرين والحالمين، إذا وقعت الفتنة كفوا أيديهم وألسنتهم، وإذا تغلب حاكم وتولى أمرهم جمعوا القلوب عليه، وعاملوه بالنصيحة لا بالفضيحة، لا يطوون قلوبهم إلا على الصدق والإخلاص، ولا يجعلون من الدين سلماً أو شعاراً يحشدون به الجماهير ويسوقون به الرعاع، بل يتمثلونه حقيقة وصدقاً، ولهذا استقر الأمر عندهم أن البقاء في ظل إمام حتى ولو كان جائراً فهو خير مائة مرة من أن تراق قطرة دم واحدة، ولأجل هذا كانوا أحرص الناس على حماية أصل الجماعة والإمامة وتعظيم جنابها، حاديهم في هذا قول المصطفي- صلى الله لعيه وسلم «من فارق الجماعة قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية»، ولتعظيمهم هذا الأصل وتثبيتهم له كانوا في مرمى سهام جماعات التحزب والفرقة، يرمونهم بأقبح الأوصاف ويشغبون عليهم في كل فرصة ومناسبة، وما ذاك إلا أنهم- عبر تمسكهم بهذا الأصل العظيم- يقطعون أطماعهم بالسلطة والتسلط.
رابعاً: سعته وانفتاحه على المذاهب الأخرى، وهذه السمة قد يستغربها من لا يعرف حقيقة هذا المنهج، لكن الحقيقة التي يشهد لها تراث السلف أن منهجهم قائم على الحوار، ويحترم التعدد في الرأي والاجتهاد، إذ الحوار عندهم منهج قرآني وسنة نبوية، والتعدد في الرأي واحترام الاجتهاد سنة سلفية، وأي سعة أعظم من أن يُطبق أئمة الحديث الذين هم أئمة السلف على صحة الرواية عن بعض المبتدعة الذين لا تؤثر بدعتهم على حديثهم، حتى بلغ الأمر بهم أن أخرج إمام الأئمة في زمانة الإمام البخاري- في أصح كتاب من كتب السنة- لبعض الرواة الذي وقعوا في بدعة الإرجاء والتشيع! وفي المقابل تراهم يعرضون عن روايات بعض الصالحين والعباد من أهل السنة؛ لافتقادهم شروط الرواية! لكن أنوه هنا إلى أن احترام هذا المنهج للتعدد وانفتاحه على المذاهب الأخرى لا يؤول به إلى عبثية نسبية الحقيقة وتوزع الحقيقة على الناس، حتى يضيع معه الحق الذي جاءت به الرسل وأنزلت لأجله الكتب. بل هو منهج يعظم ثوابت الدين وقطعياته، ويحميها من الذوبان والاندثار لكنه في ذات الوقت يترك مساحة للاجتهاد في المتغيرات والظنيات. ولهذا لما صنف إسحاق الأنباري المتوفى «كتاب الاختلاف» قال له الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله - سمه «كتاب السعة»، ويقصد- رحمه الله- أن الاختلاف في الاجتهاد يفضي إلى السعة لا إلى الاختلاف والتفرق.
خامساً: أنه منهج رحمة وهداية، فالمتمثل له حقيقة كما أنه يعلم الحق فهو يرحم الخلق، ولهذا لا تجد في حساباتهم وأجندتهم الشماتة والتشفي، ولا النكاية والمزايدة، فلا يزايدون على أحد من الخلق، بل يسألون ربهم الثبات على الحق والاستقامة على السنة، وقد وصف ابن تيمية المتمثلين لهذا المنهج بقوله: «أئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى:»كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ «ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق».
وقوله «فيهم العلم والعدل والرحمة» فيه معنى لطيف وفي غاية الأهمية، فأهل السنة بخلاف غيرهم يجتمع في قلوبهم الحق والرحمة، وهذا هو شعارهم الذي يعرفون به، فهم مع قيامهم بالعدل الذي أوجبه الله عليهم والتزامهم بالحق الذي أظهره الله لهم تجد أن في قلوبهم محلاً للرحمة بالخلق، وما دخل الداخل على من بعض من ينسب نفسه لهذا المنهج إلا من هذا الباب، فترى أن في بعضهم حرصاً على تبليغ الحق ونشره، ولكن يضيق صدره عن الرحمة والسماحة، ولربما خرج بهم هذا إلى خلق المبتدعة وأهل التفرق من السلاطة والغلظة والخشونة واللجاج والخصام.
هذه أهم السمات لهذا المنهج وليس القصد تعدادها وحصرها لكن لأن د سعد تجاهل هذا المنهج أو أخطأ في توصيفه عمدت إلى ذكرها لبيان عظم هذا المنهج وخطورة تجاهله. وفي تقديري أن أكثر ما يغبش على هذا المنهج ويوقف تمدده في الناس هو في نسبة بعض التصرفات والمواقف إليه، فلا يجوز محاكمة هذا المنهج بتصرف شخص أو جماعة تحسب نفسها عليه، وهي تناقضه شكلاً ومضموناً، فإذا كان قد وصل التلبيس على هذا المنهج وغياب الرؤية أن يظن أستاذ جامعي ومسؤول حكومي مثل د. سعد أن جماعة الإخوان جماعة سلفية فكيف الظن بغيره؟! كما أنه ليس العبرة بالتسمي والانتساب إلى منهج السلف، فهذا أمر مقدور عليه من كل أحد، وإنما العبرة بتمثله حقيقة وحكماً، وإذا أردت أن أمثل على ذلك بمن ينتسب إليه من أهل العلم حقيقة ففي علمائنا الكبار كابن باز وابن عثيمين وصالح الفوزان ومن جاء بعدهم أوضح مثال وأدق توصيف، ولو استعرضنا تصرفاتهم ومواقفهم وعرضناها على هذه السمات لوجدنها تتطابق معها تماماً، فهم أكثر الناس حرصا على الاستقرار وأوسعهم للمخالف وأرحمهم به، وأشد الناس تحذيراً من العنف والغلو. كما أن السواد الأعظم من الناس في بلادنا- هم بحمد الله- على هذا المنهج، لأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقصر هذا المنهج على طائفة قليلة من الناس تعد على رؤوس الأصابع هو تحزيب له، وإضرار به. ولا يفرح خصوم هذا المنهج بشيء إلا حينما يحوله- بعض من ينسب نفسه إليه ويتسمى به- من تدين فطري إلى منهج حزبي، حتى يبلغ الحال ببعضهم أن يعد السلفيين- في بلد السلف- على رؤوس الأصابع! وهذا هو غاية مراد أعداء منهج السلف ومنتهى آمالهم، وذلك حتى يكون منهج السلف في عيون الناس أقلية محدودة مغتربة لا يختلف أهله عن جماعة تنتسب إلى فرقة أو حزب، وبخاصة في بلادنا التي تعد- بحمد الله- محضن هذا المنهج والنموذج الصحيح لتطبيقه في الحكم والإدارة والسياسة.