فيصل المسعري

أشرت، في الأسبوع الماضي، إلى كتاب «مكتوب على الجبين» لـ«جلال أمين»، وهذا الأسبوع سأتحدث عن حكاية وردت في كتابه الآخر، الذي يعد سيرته الذاتية الأساسية «ماذا علمتني الحياة؟». حكاية طريفة أوردها «جلال»، في معرض حديثه عن والده ووالدته، وأعتقد أن لها مغزى يستحق الانتباه. كما أنها كذلك قد تكون امتدادا للمقالة السابقة (من هو الرجل السعيد؟). يقول جلال: «بدأت أمي منذ زواجها تضيف قرشا إلى قرش، تقتطعه مما يعطيها لها أبي من مصروف البيت، حيث لم يكن لها مصدر دخل غيره. كانت هذه المدخرات سرا من الأسرار الكبرى الذي لا يعرفه أحدٌ غيرها، إلا أن أبي كان يعرف ويغض الطرف، ولذا كان يعطيها أكثر مما تحتاج، وبالمقابل كانت هي تبالغ في تصوير ما يتكلفه الطعام ولوازم البيت. فاجأته مرة بإخباره بأنها تملك مبلغا من المال، بضع مئات، وتريد أن تشتري نصف المنزل، ومع أن نصف المنزل يساوي أضعاف مبلغها إلا أنه وافق بدون مناقشة، وسجل نصف المنزل باسمها، وبعد سنتين أو ثلاث، تأتي لتعلن مرة أخرى أنها تملك مبلغا بسيطا آخر، وتريد النصف المتبقي من المنزل، وكذلك يوافق أبي أيضا. وإذا بـ«فيلته الجميلة»، التي يمتلكها في أحد أرقى أحياء القاهرة، تصبح ملكا لأمي بأقل من ألف جنيه. وبعد سنوات من هذه الحادثة، بدأت أمي تتندر على أبي بأنه يسكن منزلها بدون إيجار، ثم تحولت النكتة إلى جد، فأصبح يعطيها إيجارا شهريا لبيته الذي يسكنه، ولم تقتنع أمي، بل بقيت عددا من الأعوام وهي تضحك على تفاهة المبلغ الإيجاري، ثم قررت أن ترفع عليه الإيجار، معددة له مزايا المنزل وجمال حديقته الملحقة به، وأبي يقبل ويعطيها عن طيب خاطر ما تطلبه».

حسنا.. ما الذي استوقفني في هذه القصة؟. استوقفتني عدة أمور: الأول إن من حسن ذكاء الرجل، ومن طيب معدنه، وكذلك من أجل سعادته، عليه ألا يتوقف كثيرا عند تفاصيل الحياة كافة مع رفيقة دربه، بل أكثر من ذلك، عليه ألا يأخذ الحياة معها كنوع من أنواع التحدي والخسارة. الزوجة في هذه المسيرة الحياتية هي شريكة للرجل، وعلى هذا الأساس يجب أن يعيش الرجال. أما الأمر الثاني، فهو أن الرجل الذكي هو من يتغابى في سبيل إبراز ذكاء زوجته، لأن اعتقادها أنها ذكية، وأنها استطاعت أن تمرر عليه بعض الأمور، سوف يصنع منها شخصية معتّدة بنفسها، وهذا الأمر بالتأكيد سيزيد من ثقتها بنفسها، مما سينعكس بالتالي على الأبناء، حيث إننا لا يمكن أن ننشئ أطفالا قويي الشكيمة، وكذلك في داخلهم ثقة كبيرة بالنفس، وسط عائلة تحس الزوجة فيها بالانكسار والضعف، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. الأمر الأخير: إنني اكتشف كلما تقدمت بيّ الحياة أن الماديات هي الشيء الثانوي، وليست الأساسي، لدى الأشخاص السعيدين والمكتفين بأنفسهم وذواتهم ودواخلهم.