(حول الإجماع الوطني) كتب الدكتور توفيق السيف مقالاً بهذا العنوان المرتكز على معنى حقيقي لإقامة مواطنة حديثة في دولة حديثة تتجاوز مفاهيم القرون الوسطى في (الحق الإلهي) أو مفاهيم بعض الدول التي تخلق (إجماعا وطنيا) لم يتحدث عنه الدكتور السيف لأنه يخضع لما يسمى (توازنات الرعب)، وهذا أكثر هشاشة من لبنان في انطلاق حرب أهلية، ينقصها فقط ثورة داخلية مع استجابة خارجية لتصبح الأوضاع أسوأ من أفغانستان وليبيا أو يتم معالجتها بجراحة سريعة، كما حصل في تقسيم السودان، ولهذا لم يعتبر السيف (توازنات الرعب) مما يحقق (الإجماع الوطني)، ولهذا لم يشر إليها حتى وإن قامت بعض الدول عليه.
نعود لعنوان (الإجماع الوطني) حيث أشار الدكتور توفيق إلى أهميته في ضمان وقوة (الدولة الحديثة) ولأن مقاله المهم اتكأ على مفاهيم سياسية لها تاريخ فلسفي فمن المهم الإشارة إلى أن أي كلمة ترتبط بثلاثة حروف (وطن) فإنها تستلزم قاعدة ضرورية لفهم معنى (مواطن) ولهذا فإن معنى (الإجماع الوطني) يذهب هباءً في وسط شعبي يعيش وفق (مرجعيات ما قبل الدولة الحديثة/ القبيلة، الطائفة، المذهب، اللون، الدين) ولهذا نجد أن حتى (إيران) القائمة على (ولاية الفقيه) تتبرأ بصفتها (دولة) من فتوى الخميني بحق سلمان رشدي وتعتبرها (مجرد فتوى دينية لرجل دين) لا تمثل إيران كدولة لا من قريب ولا من بعيد!!.
(الإجماع الوطني) يمكن تحقيقه بسهولة على المدى المتوسط باختلاق أزمات اقتصادية أو عسكرية، أو مبررات أيديولوجية تشبه فكرة (الممانعة أو الفوضى) التي خلقت (توازنات الرعب) المطلوبة لبقاء النظام السوري طيلة عقود، وستضمن بقاءه ربما لسنوات قليلة مقبلة، ولكنه على المدى البعيد يحتاج محفزات أكبر تحقق الصورة المثالية التي طرحها الدكتور توفيق السيف.
هذه الصورة المثالية للإجماع الوطني لن تخرج من دائرة اليوتوبيا إلى دائرة الواقع إلا بوجود أرضية من الوعي بمعنى (المواطنة) في حدها الأدنى على الأقل، ولا يكون ذلك إلا وفق تجربة دموية طويلة، كما حصل في أوروبا أو وفق برنامج (تربية وطنية) لتصبح الدولة أولاً هي ضمان حقوق المواطن، وليس القبيلة أو الطائفة، ليذبل من نفس المواطن السؤال القديم (من يضمن لي حقوقي أكثر القبيلة أم الدولة؟ الطائفة أم الدولة؟) ولا يتحقق موت السؤال إلا باستنبات مؤسسات مجتمع مدني تمتص الاحتياج الاجتماعي في (حق التجمع) داخل كيانات حديثة تتجاوز (القبيلة، الطائفة، المذهب).
(الإجماع الوطني) لا يتحقق دون وعي تاريخي بتطور معنى الفرد داخل الدولة، ولهذا سنستعرض باقتضاب العنوان الكبير للكتاب المهم جدًا (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث/ دراسات في الثقافة الأخلاقية) لكبار أساتذة الفلسفة في فرنسا ترجمة محمد مندور والذي تناولوا فيه مفهوم الخير والأخلاق لدى الفرد داخل الدولة منذ أفلاطون وأرسطو الذين يرون أن الأخلاق القديمة في جوهرها أخلاق طبيعية، فميولنا الطبيعية خيرة بحيث يكفي أن ننظمها فحياة الحكيم عمل فني من الاعتدال، ثم جاءت المرحلة الإنسانية الثانية مع ظهور المسيحية التي اعتبرت الطبيعة البشرية فاسدة منذ خطيئة آدم الأولى في الأكل من الشجرة، ومن ثم فالمسيحية ترى أن من الواجب ليس إصلاح الطبيعة البشرية بل القضاء عليها (بالزهد وجهاد النفس... إلخ) ثم جاءت المرحلة الإنسانية الثالثة في عصر النهضة حيث عاد المثل الأعلى القديم إلى الظهور ومواجهة المثل الأعلى المسيحي، وإذا بالرجل المهذب (الجنتلمان) في القرن السابع عشر الميلادي يبحث عنهما معًا دون أن يبدي شيئًا من الضيق لتعارضهما، فهو يوفق بينهما بالعقل الذي يعتبره ملكة إلهية وبشرية، طبيعية وخارقة للطبيعة معًا، والرجل المهذب (الجنتلمان) هو الكائن العاقل الذي يعرف كيف يحكم شهواته، وينزل كلا منها منزلتها من سلم القيم، هو من يعرف بنوع خاص كيف يحترم النظام القائم والديانة التقليدية، والمسيو بارودي يعرض في الكتاب تطور المذهب العقلي وقد تخلص في القرن الثامن عشر من كل عنصر صوفي ـــــ نحن تقريباً في نفس الفترة العقلية فما زال عند المسلمين إطروحات تنزع منزع (الصوفية) عند السنة والشيعة ومنها إطروحات طه عبدالرحمن وحسين نصر ــــــ ثم أخيرًا تختلط التيارات الفكرية ليتغير وضعها فتنقلب من ميتافيزيقية إلى اجتماعية ولا يعود موضع البحث أن نعرف هل طبيعة الإنسان في انسجام مع المثل الأعلى أو في تعارض أساسي، بل تصبح المشكلة الجديدة هي: هل من الواجب أن يخضع الفرد للجماعة أو أن الجماعة لم تخلق إلا من أجل الفرد؟ وهل العمل الأخلاقي عمل اجتماعي أو لا؟ وهكذا ينفصل القانون الأخلاقي ـــ الذي يجب أن يتفق عليه الجميع ـــ مما يحيط به من أساطير ليعتمد على التجربة وعلى العقل، وصولًا إلى الموقف من الحياة الذي يقتضيه قولنا (إسلك سلوك المواطن) وما هي المشابهات والاختلافات التي تقوم بين ذلك الموقف وبين موقف الحكيم القديم وموقف قديس القرون الوسطى وموقف الرجل المهذب في القرون الكلاسيكية؟ وهنا نرى أن الرجل الحكيم لا يعد الفرد إلا للحكمة الفردية مع نفسه فقط بينما قديس القرون الوسطى تجاوز الحكمة الفردية لكنه لا يعطي ولاءه للوطن بل لكنيسته وطائفته، بينما الرجل المهذب (الجنتلمان) يفكر في تجميل روحه أكثر من تفكيره في التكاتف مع مواطنيه في مجهود مشترك، بينما (أخلاق المواطن) لا تستقيم ولا يرضى عن نفسه ويتمتع بالسلام الداخلي إذا كانت الهيئة الاجتماعية مريضة، ولهذا فالتهرب الضريبي مثلًا في وجدان المواطن عار أخلاقي، وعليه فليس كل هيئة اجتماعية تُكوِّن وطناً، (الوطن نوع خاص من المجتمعات البشرية، نوع ممتاز، وهو ممتاز لأنه لا يقبل الامتيازات، وإنما يكوّن الاجتماع وطنًا عندما يلوح ملكًا مشتركًا وثمرة لجهود الأفراد الذين يؤلفونه، وأداة لذلك المجهود، يكوّن الاجتماع وطنًا عندما يضع المواطنون القوانين التي يخضعون لها وعندما يشتركون في السيادة).
يتضح من الاستعراض المبتسر لكتاب (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث) المكون من 140 ورقة أن فيه ردم للطريق الذي أشار إليه الدكتور توفيق السيف (حول الاجماع الوطني) والكتاب يستحق الاطلاع حتى ولو كان منشورًا في الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي إلا أن مواضيعه ما زالت عميقة وحاضرة حتى الآن، كيف لا؟! وما زال كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الصادر قبل قرابة مائة عام عميقًا وحاضرًا في سؤال النهضة (المتقهقرة) إلى القاعدة وداعش والحشد الشعبي والحوثي وحزب الله.
نعود لعنوان (الإجماع الوطني) حيث أشار الدكتور توفيق إلى أهميته في ضمان وقوة (الدولة الحديثة) ولأن مقاله المهم اتكأ على مفاهيم سياسية لها تاريخ فلسفي فمن المهم الإشارة إلى أن أي كلمة ترتبط بثلاثة حروف (وطن) فإنها تستلزم قاعدة ضرورية لفهم معنى (مواطن) ولهذا فإن معنى (الإجماع الوطني) يذهب هباءً في وسط شعبي يعيش وفق (مرجعيات ما قبل الدولة الحديثة/ القبيلة، الطائفة، المذهب، اللون، الدين) ولهذا نجد أن حتى (إيران) القائمة على (ولاية الفقيه) تتبرأ بصفتها (دولة) من فتوى الخميني بحق سلمان رشدي وتعتبرها (مجرد فتوى دينية لرجل دين) لا تمثل إيران كدولة لا من قريب ولا من بعيد!!.
(الإجماع الوطني) يمكن تحقيقه بسهولة على المدى المتوسط باختلاق أزمات اقتصادية أو عسكرية، أو مبررات أيديولوجية تشبه فكرة (الممانعة أو الفوضى) التي خلقت (توازنات الرعب) المطلوبة لبقاء النظام السوري طيلة عقود، وستضمن بقاءه ربما لسنوات قليلة مقبلة، ولكنه على المدى البعيد يحتاج محفزات أكبر تحقق الصورة المثالية التي طرحها الدكتور توفيق السيف.
هذه الصورة المثالية للإجماع الوطني لن تخرج من دائرة اليوتوبيا إلى دائرة الواقع إلا بوجود أرضية من الوعي بمعنى (المواطنة) في حدها الأدنى على الأقل، ولا يكون ذلك إلا وفق تجربة دموية طويلة، كما حصل في أوروبا أو وفق برنامج (تربية وطنية) لتصبح الدولة أولاً هي ضمان حقوق المواطن، وليس القبيلة أو الطائفة، ليذبل من نفس المواطن السؤال القديم (من يضمن لي حقوقي أكثر القبيلة أم الدولة؟ الطائفة أم الدولة؟) ولا يتحقق موت السؤال إلا باستنبات مؤسسات مجتمع مدني تمتص الاحتياج الاجتماعي في (حق التجمع) داخل كيانات حديثة تتجاوز (القبيلة، الطائفة، المذهب).
(الإجماع الوطني) لا يتحقق دون وعي تاريخي بتطور معنى الفرد داخل الدولة، ولهذا سنستعرض باقتضاب العنوان الكبير للكتاب المهم جدًا (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث/ دراسات في الثقافة الأخلاقية) لكبار أساتذة الفلسفة في فرنسا ترجمة محمد مندور والذي تناولوا فيه مفهوم الخير والأخلاق لدى الفرد داخل الدولة منذ أفلاطون وأرسطو الذين يرون أن الأخلاق القديمة في جوهرها أخلاق طبيعية، فميولنا الطبيعية خيرة بحيث يكفي أن ننظمها فحياة الحكيم عمل فني من الاعتدال، ثم جاءت المرحلة الإنسانية الثانية مع ظهور المسيحية التي اعتبرت الطبيعة البشرية فاسدة منذ خطيئة آدم الأولى في الأكل من الشجرة، ومن ثم فالمسيحية ترى أن من الواجب ليس إصلاح الطبيعة البشرية بل القضاء عليها (بالزهد وجهاد النفس... إلخ) ثم جاءت المرحلة الإنسانية الثالثة في عصر النهضة حيث عاد المثل الأعلى القديم إلى الظهور ومواجهة المثل الأعلى المسيحي، وإذا بالرجل المهذب (الجنتلمان) في القرن السابع عشر الميلادي يبحث عنهما معًا دون أن يبدي شيئًا من الضيق لتعارضهما، فهو يوفق بينهما بالعقل الذي يعتبره ملكة إلهية وبشرية، طبيعية وخارقة للطبيعة معًا، والرجل المهذب (الجنتلمان) هو الكائن العاقل الذي يعرف كيف يحكم شهواته، وينزل كلا منها منزلتها من سلم القيم، هو من يعرف بنوع خاص كيف يحترم النظام القائم والديانة التقليدية، والمسيو بارودي يعرض في الكتاب تطور المذهب العقلي وقد تخلص في القرن الثامن عشر من كل عنصر صوفي ـــــ نحن تقريباً في نفس الفترة العقلية فما زال عند المسلمين إطروحات تنزع منزع (الصوفية) عند السنة والشيعة ومنها إطروحات طه عبدالرحمن وحسين نصر ــــــ ثم أخيرًا تختلط التيارات الفكرية ليتغير وضعها فتنقلب من ميتافيزيقية إلى اجتماعية ولا يعود موضع البحث أن نعرف هل طبيعة الإنسان في انسجام مع المثل الأعلى أو في تعارض أساسي، بل تصبح المشكلة الجديدة هي: هل من الواجب أن يخضع الفرد للجماعة أو أن الجماعة لم تخلق إلا من أجل الفرد؟ وهل العمل الأخلاقي عمل اجتماعي أو لا؟ وهكذا ينفصل القانون الأخلاقي ـــ الذي يجب أن يتفق عليه الجميع ـــ مما يحيط به من أساطير ليعتمد على التجربة وعلى العقل، وصولًا إلى الموقف من الحياة الذي يقتضيه قولنا (إسلك سلوك المواطن) وما هي المشابهات والاختلافات التي تقوم بين ذلك الموقف وبين موقف الحكيم القديم وموقف قديس القرون الوسطى وموقف الرجل المهذب في القرون الكلاسيكية؟ وهنا نرى أن الرجل الحكيم لا يعد الفرد إلا للحكمة الفردية مع نفسه فقط بينما قديس القرون الوسطى تجاوز الحكمة الفردية لكنه لا يعطي ولاءه للوطن بل لكنيسته وطائفته، بينما الرجل المهذب (الجنتلمان) يفكر في تجميل روحه أكثر من تفكيره في التكاتف مع مواطنيه في مجهود مشترك، بينما (أخلاق المواطن) لا تستقيم ولا يرضى عن نفسه ويتمتع بالسلام الداخلي إذا كانت الهيئة الاجتماعية مريضة، ولهذا فالتهرب الضريبي مثلًا في وجدان المواطن عار أخلاقي، وعليه فليس كل هيئة اجتماعية تُكوِّن وطناً، (الوطن نوع خاص من المجتمعات البشرية، نوع ممتاز، وهو ممتاز لأنه لا يقبل الامتيازات، وإنما يكوّن الاجتماع وطنًا عندما يلوح ملكًا مشتركًا وثمرة لجهود الأفراد الذين يؤلفونه، وأداة لذلك المجهود، يكوّن الاجتماع وطنًا عندما يضع المواطنون القوانين التي يخضعون لها وعندما يشتركون في السيادة).
يتضح من الاستعراض المبتسر لكتاب (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث) المكون من 140 ورقة أن فيه ردم للطريق الذي أشار إليه الدكتور توفيق السيف (حول الاجماع الوطني) والكتاب يستحق الاطلاع حتى ولو كان منشورًا في الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي إلا أن مواضيعه ما زالت عميقة وحاضرة حتى الآن، كيف لا؟! وما زال كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الصادر قبل قرابة مائة عام عميقًا وحاضرًا في سؤال النهضة (المتقهقرة) إلى القاعدة وداعش والحشد الشعبي والحوثي وحزب الله.