أحمد السباعي

...وقبلتني المدرسة كعضو في هيئتها التعليمية، فبدأت أشعر بالفرق بين حياتي في الحارة والدكان، وبينها في وسط المعلمين الراقي، وبدأت أعاشر صنفا من الناس له قيمته الأدبية وله حظه من التهذيب إذا قيس (بالعيال) من أشقياء الحارة.

ولست أدعي أن دخائل هذا الصنف تنطوي على أفضل مما تنطوي عليه دخائل (العيال) في الحارة ولكنها أخلاق شذبتها المعرفة، ولطفت من سورتها أما في الحارة، فقد ظلت على فطرتها قاسية بما في القسوة من رجولة ونضج وخطر، وما في الفطرة من طوايا سليمة وشعور أحمق.

على أن رفاقي من هذا الصنف المتعلم لم يكن تعليمه راقياً بالصورة المعروفة في الأوساط العالية، ولم يكن نضجه التربوي قد شارف شيئا ساميا من الكمال.. فقد كنا، أو أكثرنا خريجي كتاتيب عالية، أو مدارس لم تتعد الطور الابتدائي أو المتوسط ؛ وكنا إلى جانب ذلك فتيانا لم يطر شارب أكبرنا سنا، جمعتنا مديرية المعارف من زوايا متفرقة لتزود مدارسها الجديدة بما تملك من محصول... فكان على المدارس أن تعلمنا كيف نعلم أبناءها وأن تعرضنا للتجارب القاسية لتهيئ منا، ومن تلامذتنا جيلا يلم ببعض المعرفة، ويرود طريق النهضة العلمية الجديدة.

كنا نشتعل حماسا لمهامنا في المدرسة، وكانت اليقظة الجديدة في البلاد قد خالطت مشاعرنا، فأصبحنا نؤدي أعمالنا عن عقيدة وإيمان، وكنا إلى جانب هذا مسرورين بالسلطة التي كانت تخولها لنا أوضاع المجتمع في تلك الأيام..

فالطفل في المدرسة خادم أستاذه المطيع، يتلقى أوامره في خشوع، ويمضي إلى مرضاته بنفس الروح الرياضية التي كنا نمضي بها إلى الكتاتيب من قبل !

كان كرسي الأستاذية في الفصل خشبيا، ولكن التلاميذ يأبون إلا أن يجعلوه وثيرا فيفرشونه لي بـ»أحاريمهم» إحراما فوق الآخر حتى تزيد طبقات الأحاريم عن عشرة، ثم يزينون ظهره بـ»أحاريم» أخرى، حتى يبدو كأنه منصة عرس، فكنت بذلك أرضي خيلائي كفتى لم يكتمل النضج.

وكنا نتمتع بصولتنا في الجلد!! ونرضي غرورنا بانتقاء العصى المبرومة، ونشبع رغبتنا في القسوة على من نجلدهم كما يشبع الطغاة نهمهم في الفتك بضعاف رعاياهم.

وكانت لذتنا باجتماع هيئتنا التعليمية– كشلة– لا تعادلها لذة، فقد كانت سنوات أعمارنا متقاربة، وكان مستوى عقولنا المحدود لا تتفاوت درجاته كثيرا.

لم تكن لدينا دروس يتعين مراجعتها أو بحوث يجب إعدادها بل كانت تكفينا كتب التلاميذ المطبوعة لنكلفهم باستظهارها عن ظهر قلب ثم نفسر لهم ما أغلق من بعض معانيها.

كان الطالب يحفظ في كتابه نص السؤال وصيغة الجواب كما طبعتا وفي ذلك ما يضمن له النجاح عند أستاذه كما يضمن له التفوق في غرفة الاختبار.

لهذا كان كل همنا بعد أن نؤدي وظائفنا في الفصول بحماس وغيرة– على طريقتنا– أن نتمتع بندواتنا واجتماعاتنا في مرح صارخ، وعبث صاحب. وأن نمضي ليالينا في سمر ضاحك وسويعات فراغنا في هزل يليق بأترابنا في سن الفتوه المبكرة، وإن كان لا يتفق مع ما يجب لو قارنا كمدرسين.

وكان زميلنا (عبدالله خوجه) المعروف اليوم على رأس الحركة التعليمية الليلية أستاذا لا ينازع في فن الضحك، وتدبير المقالب، وتمثيل الفكاهات التي لا يجيدها إلا الموهوبون.. فكانت أيامنا لذيذة بأفانينه الطريفة ونكاته الصاخبة.

كانت مواعيد دوامنا في المدرسة لا تحدها ساعات، فقد كنا نصرف تلاميذنا لنبدأ ندواتنا لا في هدوء يليق بوظائفنا ولكن في ضجة صاخبة وسباق في الجري والنط بين غرف المدرسة وإدارتها، وكان يحلو لنا في بعض الأمسيات أن نمتطي صهوات بعض الحمير الفارهة في موكب حاشد.. يبدأ خروجه من المدرسة في ضجة لا تليق بمدرسين، ثم ينتهي في وادي الزاهر أو (ريع الكحل).

وأكبر ظني أننا كنا معذورين.. فقد كان أكبرنا سنا لا يتجاوز سن الفتوة اللاعبة؛ وكان سرورنا بفرص اللعب بيننا وإصدار الأوامر على الأطفال وجلدهم لا يقل عن سرورنا بمهامنا التعليمية في المدرسة.

* أديب وصحافي سعودي «1905- 1983»