هذا المقال الخامس عن كتاب إبراهيم البليهي «الريادة والاستجابة»، وعنوان المقال هو «مغامرة كولومبس»، إذ يبحث الكتاب في عوامل التغيير التي أدت إلى الانبعاث الأوروبي.
لقد استحوذت على كريستوفر كولومبس فكرة الاتجاه غربا، للوصول إلى الشرق الأقصى (الصين - الهند - اليابان)، وسبب ذلك إنه كان مقتنعا بكروية الأرض، وهو الاقتناع الذي كان مخالفا لتصوُّر الكنيسة، وما كان سائدا في زمنه في أوروبا، مما جعله يجد مقاومة متنوعة الأسباب ومتعددة الأطراف. إن أولى الصعوبات التي واجهها «كولومبس» كانت إيجاد ممول لرحلته، مما جعله ينتقل من ملك إلى آخر في أوروبا، حتى أمضى اثني عشر عاما يطرق الأبواب، وفي آخر المطاف تمت تلبية طلبه من قِبل ملك وملكة إسبانيا، بعد رفض طلبه مرة سابقة.
نجاح «كولومبس» ما كان له أن يتحقق لولا احتضان السلطة السياسية في إسبانيا له، وهذا هو القانون الأول للتقدم الحضاري، فلا بد من التكامل بين قيادة الفكر وقيادة الفعل، مما يؤكد أهمية التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة. من هنا اختار إبراهيم البليهي عنوان كتابه الذي بين يدي «الريادة والاستجابة».
هكذا تكون إسبانيا قد أطلقت حملة استعمار أمريكا، ورأت دول أوروبية أخرى الثراء يتدفق على إسبانيا، فانضمت ست دول أخرى إلى عملية استعمار الأمريكيتين. من النتائج العظيمة التي أسفر عنها تقاسم العالم الجديد بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بين الثقافة اللاتينية، بما تعنيه من انغلاق وتعصب واستبداد، مقابل الثقافة الأنجلو – سكسون، بما تحمله من تفتُّح وتسامح وديمقراطية، أن إسبانيا والبرتغال قد غرستا الاستبداد السياسي والانغلاق الثقافي والتعصب الديني في كل المجتمعات التي حكموها (مثلا دول أمريكا اللاتينية)، بينما غرست الثقافة الأنجلو – سكسون الديمقراطية والانفتاح والازدهار في المجتمعات التي سيطروا عليها (مثلا دول أمريكا الشمالية).
هذه الحقيقة تؤكد الفاعلية الحاسمة للسياسة والثقافة في أوضاع الشعوب والأمم. إن مغامرة «كولومبس» قد فتحت لإسبانيا أبواب القوة والامتداد والسيطرة والثراء، حيث تجمعت فيها كميات هائلة من الذهب، إلا أنه كان ثراء ريعيا، فزال بسرعة، وبقيت إسبانيا في ذيل القافلة الأوروبية.
كذلك أصبح ملك إسبانيا يمارس تأثيرا كبيرا على الدول الأوروبية الأخرى، وبفضل الذهب الأمريكي فقد أُختير لاحقا ملك إسبانيا ليكون أيضا إمبراطورا لألمانيا. هذه القوة الطارئة المجلوبة هي التي أغرت إسبانيا بمحاولة إخضاع أوروبا، والعمل على إزهاق البروتستانتية، فغزت إنجلترا بأسطول «الإرمادا» الذي لا يقهر، لكن البحرية الإنجليزية قهرت الجيش الإسباني، ومنذ ذلك التاريخ تَصَدَّرت إنجلترا المشهد الأوروبي، بل والمشهد العالمي بأكمله.
في الحقيقة إن إسبانيا لم تكن تفكر في هذا المشروع، وإنما كانت قناعة «كولومبس» العميقة، وإلحاحه الذي لم يفتر ولم يتوقف، وصبره الطويل، وثقته التي لا تتزعزع، ومحاولاته المتكررة، هي التي أوجدت هذه القناعة لدى السلطة السياسية في إسبانيا. كذلك كان هناك من أقنع «إيزابليا»، صاحبة «قشتالة»، بفكرة تُحوُّل آسيا إلى المسيحية، فقررت أن تجازف بتمويل رحلة «كولومبس»، فجزهته بثلاث سفن وثمانية وثمانين رجلا ومؤنة تكفيهم عاما، كان منهم أربعون من المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد.
اتفق العديد من المؤرخين على أن مغامرة «كولومبس» في 1492 قد دشنت نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث.
لقد كانت رحلة مغموسة بالخطر الشديد والنهاية المجهولة، فالمحيط هائل هائج، والمسافة غير معروفة، والخطر ضاغط، والسفن شراعية ضعيفة، والوسائل كلها بدائية.
لقد استمر البحارة يصارعون الأخطار طيلة عشرة أسابيع، إذ بنهاية الأسبوع العاشر وقع نظرهم على الأرض. كان لهذا الحدث المثير على المجتمعات الأوروبية ما يشبه «الصعق الكهربائي» الذي بدَّل الرؤى وغيَّر التصورات، فتوقدت روح عامة في بيئة كاملة، أدت إلى أن تتلاحق الكشوف والاختراعات والتحركات الاجتماعية والثورات السياسية، وأن يشتد الولع بالعلم، والرغبة في المعرفة، والتهيؤ لمواصلة التغيير. لقد كانت مغامرة «كولومبس» فاتحة تغييرات جذرية في الحياة الأوروبية.
إن قابلية التغيُّر هي معيار التحضر. مغامرة «كولومبس» واكتشاف العالم الجديد قد هزا الكثير من القناعات في أوروبا، وخلخلا الكثير من المعتقدات، وقوَّضا الكثير من التصورات، فالنتائج الثقافية العميقة هي الأكثر أهمية والأدوم بقاء والأشد تأثيرا.
لقد جعل الاكتشاف الأوروبيين يشككون في تأكيدات الكنيسة النافية، فرجال الكنيسة كانوا يؤكدون أنه لا توجد أرض خلف ما كان يسمى «بحر الظلمات» (المحيط الأطلسي). كما أن التصور السائد - آنذاك - أن المتجه غربا يكون في حالة انحدار مستمر، سيوصله إلى قعر الهاوية.
هذا بدوره جعل الشكوك تمتد إلى ما نهاية له من التأكيدات العمياء، التي أصابت العقول بالشلل، وأوقفت حركة التقدم في أوروبا عشرة قرون. لهذا وُضع «كولومبس» في المرتبة التاسعة (9) من المائة الأوائل من حيث اتساع التأثير في الحياة الإنسانية والريادة الخارقة وعظمة النتائج.
في الحقيقة «كولومبس» لم يكن ينظر لمغامرته كمهمة حضارية، وبوصفها «مفتاح العصر الحديث»، ولكنه كان مدفوعا بهوس ديني، حيث كان يطمع بأن يعتنق الإمبراطور الصيني المسيحية.
كما كان يتوقع أن يجد في مجاهل الأرض كميات ضخمة من الذهب، لتمويل حملة صليبية جديدة، تنشر المسيحية وتعيد بيت المقدس، غير أن النتائج جاءت عكس ما أراد، حيث استهل سلسلة من الأحداث أيقظت أوروبا، ودفعت بها إلى التحرر من سلطة الكنيسة بدلا من تكريسها، وهذا هو مكر التاريخ.
وأخيرا ينتهي المؤلف إلى أن مغامرة «كولومبس» قد أحدثت تغييرا جذريا في التصورات والآمال، وفتحت الآفاق، ونتائجها امتدت لتشمل كل شىء، حيث امتدت إلى مجالات الأفكار والأفعال والأوضاع، فاهتزت أوروبا اهتزازا نقلها من حالة الركود إلى حالة النشاط والتوقد والمغامرة.
لقد استحوذت على كريستوفر كولومبس فكرة الاتجاه غربا، للوصول إلى الشرق الأقصى (الصين - الهند - اليابان)، وسبب ذلك إنه كان مقتنعا بكروية الأرض، وهو الاقتناع الذي كان مخالفا لتصوُّر الكنيسة، وما كان سائدا في زمنه في أوروبا، مما جعله يجد مقاومة متنوعة الأسباب ومتعددة الأطراف. إن أولى الصعوبات التي واجهها «كولومبس» كانت إيجاد ممول لرحلته، مما جعله ينتقل من ملك إلى آخر في أوروبا، حتى أمضى اثني عشر عاما يطرق الأبواب، وفي آخر المطاف تمت تلبية طلبه من قِبل ملك وملكة إسبانيا، بعد رفض طلبه مرة سابقة.
نجاح «كولومبس» ما كان له أن يتحقق لولا احتضان السلطة السياسية في إسبانيا له، وهذا هو القانون الأول للتقدم الحضاري، فلا بد من التكامل بين قيادة الفكر وقيادة الفعل، مما يؤكد أهمية التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة. من هنا اختار إبراهيم البليهي عنوان كتابه الذي بين يدي «الريادة والاستجابة».
هكذا تكون إسبانيا قد أطلقت حملة استعمار أمريكا، ورأت دول أوروبية أخرى الثراء يتدفق على إسبانيا، فانضمت ست دول أخرى إلى عملية استعمار الأمريكيتين. من النتائج العظيمة التي أسفر عنها تقاسم العالم الجديد بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بين الثقافة اللاتينية، بما تعنيه من انغلاق وتعصب واستبداد، مقابل الثقافة الأنجلو – سكسون، بما تحمله من تفتُّح وتسامح وديمقراطية، أن إسبانيا والبرتغال قد غرستا الاستبداد السياسي والانغلاق الثقافي والتعصب الديني في كل المجتمعات التي حكموها (مثلا دول أمريكا اللاتينية)، بينما غرست الثقافة الأنجلو – سكسون الديمقراطية والانفتاح والازدهار في المجتمعات التي سيطروا عليها (مثلا دول أمريكا الشمالية).
هذه الحقيقة تؤكد الفاعلية الحاسمة للسياسة والثقافة في أوضاع الشعوب والأمم. إن مغامرة «كولومبس» قد فتحت لإسبانيا أبواب القوة والامتداد والسيطرة والثراء، حيث تجمعت فيها كميات هائلة من الذهب، إلا أنه كان ثراء ريعيا، فزال بسرعة، وبقيت إسبانيا في ذيل القافلة الأوروبية.
كذلك أصبح ملك إسبانيا يمارس تأثيرا كبيرا على الدول الأوروبية الأخرى، وبفضل الذهب الأمريكي فقد أُختير لاحقا ملك إسبانيا ليكون أيضا إمبراطورا لألمانيا. هذه القوة الطارئة المجلوبة هي التي أغرت إسبانيا بمحاولة إخضاع أوروبا، والعمل على إزهاق البروتستانتية، فغزت إنجلترا بأسطول «الإرمادا» الذي لا يقهر، لكن البحرية الإنجليزية قهرت الجيش الإسباني، ومنذ ذلك التاريخ تَصَدَّرت إنجلترا المشهد الأوروبي، بل والمشهد العالمي بأكمله.
في الحقيقة إن إسبانيا لم تكن تفكر في هذا المشروع، وإنما كانت قناعة «كولومبس» العميقة، وإلحاحه الذي لم يفتر ولم يتوقف، وصبره الطويل، وثقته التي لا تتزعزع، ومحاولاته المتكررة، هي التي أوجدت هذه القناعة لدى السلطة السياسية في إسبانيا. كذلك كان هناك من أقنع «إيزابليا»، صاحبة «قشتالة»، بفكرة تُحوُّل آسيا إلى المسيحية، فقررت أن تجازف بتمويل رحلة «كولومبس»، فجزهته بثلاث سفن وثمانية وثمانين رجلا ومؤنة تكفيهم عاما، كان منهم أربعون من المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد.
اتفق العديد من المؤرخين على أن مغامرة «كولومبس» في 1492 قد دشنت نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث.
لقد كانت رحلة مغموسة بالخطر الشديد والنهاية المجهولة، فالمحيط هائل هائج، والمسافة غير معروفة، والخطر ضاغط، والسفن شراعية ضعيفة، والوسائل كلها بدائية.
لقد استمر البحارة يصارعون الأخطار طيلة عشرة أسابيع، إذ بنهاية الأسبوع العاشر وقع نظرهم على الأرض. كان لهذا الحدث المثير على المجتمعات الأوروبية ما يشبه «الصعق الكهربائي» الذي بدَّل الرؤى وغيَّر التصورات، فتوقدت روح عامة في بيئة كاملة، أدت إلى أن تتلاحق الكشوف والاختراعات والتحركات الاجتماعية والثورات السياسية، وأن يشتد الولع بالعلم، والرغبة في المعرفة، والتهيؤ لمواصلة التغيير. لقد كانت مغامرة «كولومبس» فاتحة تغييرات جذرية في الحياة الأوروبية.
إن قابلية التغيُّر هي معيار التحضر. مغامرة «كولومبس» واكتشاف العالم الجديد قد هزا الكثير من القناعات في أوروبا، وخلخلا الكثير من المعتقدات، وقوَّضا الكثير من التصورات، فالنتائج الثقافية العميقة هي الأكثر أهمية والأدوم بقاء والأشد تأثيرا.
لقد جعل الاكتشاف الأوروبيين يشككون في تأكيدات الكنيسة النافية، فرجال الكنيسة كانوا يؤكدون أنه لا توجد أرض خلف ما كان يسمى «بحر الظلمات» (المحيط الأطلسي). كما أن التصور السائد - آنذاك - أن المتجه غربا يكون في حالة انحدار مستمر، سيوصله إلى قعر الهاوية.
هذا بدوره جعل الشكوك تمتد إلى ما نهاية له من التأكيدات العمياء، التي أصابت العقول بالشلل، وأوقفت حركة التقدم في أوروبا عشرة قرون. لهذا وُضع «كولومبس» في المرتبة التاسعة (9) من المائة الأوائل من حيث اتساع التأثير في الحياة الإنسانية والريادة الخارقة وعظمة النتائج.
في الحقيقة «كولومبس» لم يكن ينظر لمغامرته كمهمة حضارية، وبوصفها «مفتاح العصر الحديث»، ولكنه كان مدفوعا بهوس ديني، حيث كان يطمع بأن يعتنق الإمبراطور الصيني المسيحية.
كما كان يتوقع أن يجد في مجاهل الأرض كميات ضخمة من الذهب، لتمويل حملة صليبية جديدة، تنشر المسيحية وتعيد بيت المقدس، غير أن النتائج جاءت عكس ما أراد، حيث استهل سلسلة من الأحداث أيقظت أوروبا، ودفعت بها إلى التحرر من سلطة الكنيسة بدلا من تكريسها، وهذا هو مكر التاريخ.
وأخيرا ينتهي المؤلف إلى أن مغامرة «كولومبس» قد أحدثت تغييرا جذريا في التصورات والآمال، وفتحت الآفاق، ونتائجها امتدت لتشمل كل شىء، حيث امتدت إلى مجالات الأفكار والأفعال والأوضاع، فاهتزت أوروبا اهتزازا نقلها من حالة الركود إلى حالة النشاط والتوقد والمغامرة.