اتكأ مشروع الصهاينة الاستيطاني، على خرافات وأساطير، استحضرت من خارج التاريخ والمكان، ترى أن فلسطين وفقا لتنظير الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض
بعد أيام قليلة، تمر الذكرى الرابعة والستون لاغتصاب فلسطين، وإعلان تأسيس إسرائيل، خنجرا مسموما، في القلب من الوطن العربي، يحول دون وحدة الأمة وتقدمها. في 14 مايو 1948، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني قيام الكيان الصهيوني. وكان معنى ذلك تمكن الصهاينة، من تحقيق مشروعهم الذي أعلنوا عنه، في أواخر القرن التاسع عشر، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض السلام، بينما لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق حلمهم في الحرية وتحرير فلسطين وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابها.
وبديهي استحالة تحقيق المشروعين، في تلك اللحظة من التاريخ. فقد بدت ضمن الواقع الموضوعي وتوازن القوة، وموقع العرب في الخارطة الدولية، استحالة قيام الدولة الفلسطينية.
فالفلسطينيون الدين عاشوا في وطنهم في سلسلة ممتدة، دون انقطاع، لآلاف السنين. وعلى أرضها شيدوا حضارتهم ومقدساتهم وأماكن عبادتهم وثقافاتهم وفلكلورهم. لم يكونوا، تحت أي ظرف، على استعداد للتفريط بحقوقهم الطبيعية والتاريخية في فلسطين. وقد أكدت ثورتهم منذ مطالع العشرينات، مرورا بانتفاضتهم في نهاية العشرينات، وثورتهم عام 1936، استعدادهم الثابت لبذل الغالي والنفيس والتضحية بأنفسهم من أجل الدفاع عن حقوقهم القومية والوطنية. وقد اعتبروا مرحلة الانتداب البريطاني لفلسطين، محطة عبور قصيرة، ينالون في نهايتها حقوقهم في التحرر والاستقلال، وعودة فلسطين حرة عربية.
أما الصهاينة، فإن مشروعهم الاستيطاني، اتكأ على خرافات وأساطير، استحضرت من خارج التاريخ والمكان، وقامت على نفي لحقائق الجغرافيا والتاريخ معا، فنفت جملة وتفصيلا وجود أي شعب على أرض فلسطين، وأن فلسطين وفقا لتنظير الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، كما هي تصريحات رئيسة الحكومة الإسرائيلية.
وكانت خرافة الاصطفاء قد جعلت من اليهود شعب الله المختار، الذي اختير من بين شعوب الأرض، لعمارة الأرض، فهم وحدهم الذين يملكون حقوقا تاريخية في فلسطين، منحت لهم من قبل النبي إبراهيم الذي وعدهم بحيازتها. وهم أيضا شعب عصي على الاندماج بالشعوب الأخرى، في المجتمعات التي عاشوا بها عبر التاريخ، بسبب فراداتهم وخصوصية ثقافتهم. وعلاوة على ذلك، فإن اغتصابهم لفلسطين سيؤمن لهم وطنا قوميا، يلغي حالة النفي والاغتراب، ويزيح عنهم حالة الاضطهاد المستمر، وحملات الإبادة التي يتعرضون لها باستمرار، وبشكل خاص في أوروبا الشرقية.
وحين يقر بعض الصهاينة، بالوجود الفلسطيني، فإن ذلك يتم بهدف ممارسة نوع آخر من النفي، مستخدمين أقذع التوصيفات العنصرية بحق هذا الوجود. فالمؤرخ بني موريس يصف الفلسطينيين ببرابرة العصر الحديث، وأن إسرائيل تقف مع العالم المتحضر، في جبهة صدام الحضارات بين الغرب ومفاهيمه، والعرب والمسلمين بمفاهيمهم. والمشكلة من وجهة نظره، تكمن في أن الإسلام عالم يحمل قيما مغايرة... عالم ليست فيه لحياة الإنسان القيمة ذاتها الموجودة بالغرب، فالحرية والديمقراطية والانفتاح والإبداع أمور غريبة على المسلمين. ويأتي هذا التوصيف متسقا مع رؤية صامويل هانتنغتون في صراع الحضارات.
وتجد قراءة المؤرخ اليهودي، لبني موريس المعاصرة جذورها في عمق فكر مؤسسي الحركة الصهيونية. فمؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل، يرى أن تأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، سيشكل جدارا متينا عازلا بين الحضارة الأوروبية وبين العرب البرابرة.
وبهذا التوصيف، يبرر هرتزل وموريس، قتل العرب وإبادتهم، وفي أحسن الأحوال، طردهم من فلسطين لأن ذلك ضرورة لانتصار الإنسانية. وهذه القراءة ليست استعادة للتاريخ. فالدعوة لطرد الفلسطينيين من الأراضي التي احتلت عام 1948، تتكرر من جديد وهي كما يراها، المؤرخ الصهيوني موريس حتمية لضمان أمن واستقرار إسرائيل، بل إنه لا يرى غضاضة في دمج الضفة والقطاع بالكيان الصهيوني بعد القيام بتطهير عرقي لهما من العرب الفلسطينيين. ويستدل على ذلك، أنه من دون طرد الفلسطينيين في السابق، لم يكن للصهاينة أن ينتصروا في حرب تأسيس إسرائيل. وإن هناك ظروفا في التاريخ تنطوي على تبرير للتطهير العرقي. فلم يكن بوسع الديمقراطية أن تتحقق بأميركا دون إبادة الهنود الحمر. وهناك حالات يبرر فيها الخير الشامل، أعمالا صعبة، ووحشية. وهكذا يبرر طرد الفلسطينيين من أرضهم.
ضمن هذه الرؤية العنصرية للمؤسسين والأحفاد، اندفع الصهاينة عام 1902، بالضغط على بريطانيا لنيل وعد منها بتأييد تأسيس وطن لليهود في فلسطين. وفي نوفمبر عام 1917، صدر وعد بلفور على أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي بفلسطين. وكان ذلك أول تأييد رسمي من إحدى القوى العظمى للادعاءات الصهيونية في فلسطين.
حاول الفلسطينيون التصدي لمشروع الهجرة اليهودية لأرضهم، لكن توازن القوة لم يكن لمصلحتهم. فقد افتقروا التنظيم والقيادة المقتدرة ووحدة العمل، وكانوا متفرقين إلى عشائر وأحزاب ومجاميع صغيرة. أدى ذلك إلى حرمانهم من إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وكانت نتيجة ذلك أن كثيرا من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينات انتهت بنتائج مأساوية.
وتمكن الصهاينة من إيجاز خطوتهم الرئيسية باتجاه الاستيلاء على فلسطين بنهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك أن الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بريطانيا، بعد الحرب مباشرة، جعلتها تقرر الرحيل عن فلسطين. وكان العالم، قد سمع بأخبار الإبادة التي تعرض لها اليهود الأوروبيون في معسكرات هتلر. وقد أدت هذه العوامل لخلق مناخ موات لقيام دولة إسرائيل، بدلا من وطن قومي، كما اقترح في وعد بلفور.
في سبتمبر عام 1947، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية. وقد نادى بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب. رفض العرب، قرار التقسيم، لأنه يأخذ بعين الاعتبار نسبة التعداد السكاني للشعب الفلسطيني. ولأن الفلسطينيين اعتبروا المهاجرين اليهود إلى فلسطين في حكم الأجانب، الذين لا يملكون حق المواطنة. واندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، ونتج عنها تشرد ما يقارب 775 ألفا من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة، وبقاء أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر. وفي تلك الحرب، مارس الصهاينة أبشع أنواع الجرائم، حيث لم يترددوا عن ارتكاب المجازر في بئر السبع ودير ياسين، شملت بقر بطون النساء، وقتل الأطفال والشيوخ الفلسطينيين، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، والتهديد بإبادة السكان المحليين ما لم ينصاعوا لبرنامج الترانسفير، ولتكشف نتيجة الحرب عن وجه آخر أقبح للعقيدة والممارسات الصهيونية.