يُحزنني كثيرا عندما أقرأ عبارات أهل العلم في لذة العلم. إنها لذَّة لا تُضاهيها أيُّ لذَّة من لذائذ الدُّنيا الفانية. وأجد من أبناء مجتمعنا من يلهو ويعبث بجهازه المحمول في شتى أنواع الألعاب والتطبيقات، التي تأسر عقولهم وتشد انتباههم، ويغفلون عن كل من حولهم، اندماجا مع تلك الألعاب. تلك الغفلة، وذلك الاندماج، كنت أظنهما شيئين مصطنعين، بيد أنني لما اقتربت ممن يمارس تلك اللحظات العبثية، في نظري، التي يقذف فيها ذلك المشارك في تلك الألعاب بأعظم شيء يمتلكه بشر في الوجود، وهو الوقت والزمن، واللحظة التي يمكن من خلالها أن يرتقي إلى مستويات لا يكاد يتخيلها عقل ذلك اللاعب العبثي، الذي جعل تلك الألعاب هي القيمة والغاية والهدف من وجوده اللحظي والآني - وجدتهما غير مصطنعين، فقد اقتربت من أولئك العابثين بأوقاتهم، فكانوا في مستويات أخرى من هذه الدنيا، لا ينشدون علما ولا قراءة ولا تأملا ولا تفكرا، بل إن ما يطلبونه هو الأرقام التي يُسجلونها في لعبة «ببجي» أو «Call of duty» أو «Fortnite»، وكم قتل من عدو في تلك النزلات القتالية الوهمية التي تُحاكيها تلك التطبيقات. إنها لحظات محيرة ليّ عندما أنظر فلذات أكبادنا ينغمسون بعمق لا مثيل له، ولم نجد له شبيها خلال آخر أربعة عقود مضت، فهو عبث يستهدف العقل الإنساني، فيصيبه في أعز ما يملك، وهو آلة التفكر والتأمل والبحث والتأصيل للمعارف، فالعقل الإنساني هو من صنع كل ما نعيشه اليوم، من ترف ورفاهية، ومن انغماس وسكرة فكر في تلك الألعاب التي سيطرت على عقول بني البشر، سواء كانوا صغارا أم كبارا. ولقد أخذتني دهشة، كادت تقلب موازين المعارف والضوابط والعلوم لدي، عندما وجدت من بلغوا الأربعين والخمسين فما فوق وهم عاكفون على تلك التطبيقات والألعاب، في غفلة عن أوقات سوف يندمون على إضاعتها. ومما جعل ما بقي لدي من عقل يطير، أن تلك الغفلة كانت إضاعتها عن عمد وقصد، بل إنهم كانوا يعبرون عن انغماسهم في تلك التطبيقات الملهية برضا وسرور، وكأنها لذةٌ علمية ترتقي وتسمو بالعقول، فتوقفت مع نفسي لحظات فارقة، وقد أخذتني حسرة، لم أجدها يوما في حياتي، وتذكرت ما قاله الإمام الشاطبِيُّ - رحمه الله: «في العِلْم بالأشياء لذَّة لا تُوازيها لذَّة، إذْ هو نوعٌ مِن الاستيلاء على المعلوم، والحَوْز له، ومحبَّة الاستيلاء قد جُبِلَت عليها النُّفوس، وميلت إليها القُلوب، وهو مطلب خاص برهانه التجربة التامة والاستقراء العام، فقد يُطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها متسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع»، فأي اللذتين من تصقل المعرفة، وتجعل العقول ترتقي، للحصول على أعلى ما تسمو إليه الإنسانية جمعاء، بغض النظر عن دينها أو جنسها أو لونها!. لا شك أن تلك اللذة التي يتحدث عنها الإمام الشاطبي هي التي ترتقي بالعقل الإنساني إلى مراتبه التي ينبغي ويتوجب أن يكون في مصافها وفي مستوياتها. ونحن عندما نتحدث عن اللذة في طلب المعارف، وتوجيه النقد إلى تلك الغفلة والسكرة بالانغماس في تلك الألعاب والتطبيقات، التي لا تعود على عقل النشء بشيء من الفائدة، لا يعني أن البحث عن اللهو والاستمتاع والاستجمام هو طريق محرم، بل إن اللهو والاستجمام مطلوب ومحبب، وهذا ثابت بالشرع وبالعادة والتجربة، حيث ورد: «إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولربِّكَ عليكَ حقًّا، ولضَيفِكَ عليك حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه»، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينظر إلى لعب أهل الحبشة، وأستمع إلى ضرب الدفوف، فهذه أمور مقررة شرعا وعرفا، بيد أن اللهو المسرف في تلك التطبيقات أصبح إشكالية معرفية ومجتمعية، وظاهرة سيئة لها مضار كثيرة، سواء كانت تربوية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية، فضلا عن كونها إشكالية حقيقية تؤثر تأثيرا بالغا في العقول، التي هي أعز ما نملك، وهي السمة الفارقة بين هذا الإنسان وغيره من المخلوقات. تلك التطبيقات والألعاب تسرق وتختلس منا أعز ما نملك في هذا الوجود، بل هو الوجود ذاته، وهو الوقت والزمن، فلا اعتبار ولا ثقل لنا كبشر إن لم نملك الزمن، ونجعله يسعى فيما نريد، لا أن نجعل ذلك الزمان يسعى فيما يريده الآخرون، أو أن نجعل ذلك الزمن يسير بنا حيث يحط رحاله، دون أثر حقيقي لإرادتنا وقدرتنا والتحكم في تصرفاتنا، فذلك الزمن ليس له عقل ولا مشاعر ولا حسابات ولا رحمة. الزمن إن تركناه يتحكم بمصائرنا، فإن لسعاته قاتلة ومميتة، لأن الزمن فقط يعرف ويؤمن بمن يمتلكه، ويتحكم فيه بقدرته وإرادته، التي هي من الأشياء المعجزة التي وضعها فينا مبدع وخالق هذا الكون. الزمن يخشى ويذعن، ويقف احتراما لمن يمتلك إرادة وقدرة قوية ومتماسكة، تجعله يتحكم في جزئياته، ويقسم تلك الأوقات والأزمنة حسبما تشاء قدرة وإرادة ذلك الإنسان القوي، الذي يقف الزمان وصوارف الدهر له احتراما، لأنه كان ولا يزال قويا في الوقوف أمام ترهات وشوائب ما يقذفه الزمن أمام عقل ذلك الإنسان القوي الإرادة، وصاحب القدرة المتحكمة بذلك الزمان، الذي أضاعته الأجيال والشباب والشيوخ في تطبيقات وألعاب أصبحت قريبة الشبه والتعلق بعلة الخمر، في كونها تجعل العقل مغطى، فيغيره عن حالته الأصلية، لا يستطيع أن يفكر أو يتأمل بشكل صحيح وسوي. لذا، فإن الفقهاء عندما عرفوا الخمر بأنه «ما خامر العقل»، يقصدون بذلك أي «غطاه» أو «خالطه»، فلم يتركه على حاله، وهو من مجاز التشبيه. والعقل هو آلة التمييز، فلذلك حرم ما غطاه أو غيره، لأنه بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده، ليقوموا بحقوقه، فلو ذهب باحث أو مفكر أو مجتهد إلى القول بأن إلحاق تلك التطبيقات والألعاب، التي ثبت ضررها وتأثيرها السلبي، بعلة الخمر أقرب منه إلى إلحاقها بالمباحات، التي ليس فيها ضرر كبير وبالغ التأثير في الوعي والإدراك العقلي لهذا الإنسان، لما كان قوله شاذا أو غريبا عن تأسيس الفقهاء والأصوليين في كيفية إلحاق الصور الحادثة بعلل الشرع الثابتة.
وأختم متحسرا، كما بدأتُ، بما قاله وسطره «ابن الجوزي» - رحمة الله عليه - حينما يقول: «ولقد كنتُ في حلاوة طلَبِ العلم أَلْقى من الشَّدائد ما هو أحلى عندي من العسَل في سبيل ما أطلبُ وأرجو، وكنتُ في زمن الصِّبا آخذُ معي أرغفةً يابسة، ثم أذهب به في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، ثُم آكل هذا الرَّغيف، وأشرب الماء، فكلَّما أكلتُ لقمةً شربتُ عليها، وعَيْن هِمَّتِي لا تَرى إلا لذَّة تحصيل العلم»، وأُمني النفس بأن يصل شبابنا إلى ما وصل إليه «أبو عُبَيد» - رحمه الله - عندما قال: «كنتُ في تصنيف هذا الكتاب (كتاب غريب الحديث) أربعين سنَةً، ورُبَّما كنت أستفيد الفائدةَ من أفواه الرِّجال، فأضَعها في موضِعِها من هذا الكتاب، فأبِيت ساهِرًا، فرَحًا منِّي بتلك الفائدة»، أوعلى الأقل ما وصل إليه الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي في نصيحته: «أريد أن أدلكم على شيء فيه لذة كبيرة، وفيه منفعة كبيرة، وتكاليفه قليلة، فهل تحبون أن تعرفوا ما هو؟ هو المطالعة. ولقد جربت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب. وإذا كان للناس ميول وكانت لهم رغبات، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها».
أما أنا، فأقول بيت الشاعر العراقي «عبدالحسين الآزري»:
«حسبي يراعي ساقيا ومداد محبرتي شرابي
وأنا الذي لم يبق لي إلا منادمة الكتاب».
وأختم متحسرا، كما بدأتُ، بما قاله وسطره «ابن الجوزي» - رحمة الله عليه - حينما يقول: «ولقد كنتُ في حلاوة طلَبِ العلم أَلْقى من الشَّدائد ما هو أحلى عندي من العسَل في سبيل ما أطلبُ وأرجو، وكنتُ في زمن الصِّبا آخذُ معي أرغفةً يابسة، ثم أذهب به في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، ثُم آكل هذا الرَّغيف، وأشرب الماء، فكلَّما أكلتُ لقمةً شربتُ عليها، وعَيْن هِمَّتِي لا تَرى إلا لذَّة تحصيل العلم»، وأُمني النفس بأن يصل شبابنا إلى ما وصل إليه «أبو عُبَيد» - رحمه الله - عندما قال: «كنتُ في تصنيف هذا الكتاب (كتاب غريب الحديث) أربعين سنَةً، ورُبَّما كنت أستفيد الفائدةَ من أفواه الرِّجال، فأضَعها في موضِعِها من هذا الكتاب، فأبِيت ساهِرًا، فرَحًا منِّي بتلك الفائدة»، أوعلى الأقل ما وصل إليه الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي في نصيحته: «أريد أن أدلكم على شيء فيه لذة كبيرة، وفيه منفعة كبيرة، وتكاليفه قليلة، فهل تحبون أن تعرفوا ما هو؟ هو المطالعة. ولقد جربت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب. وإذا كان للناس ميول وكانت لهم رغبات، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها».
أما أنا، فأقول بيت الشاعر العراقي «عبدالحسين الآزري»:
«حسبي يراعي ساقيا ومداد محبرتي شرابي
وأنا الذي لم يبق لي إلا منادمة الكتاب».