بين القيد الإجباري وبين الانطلاقة الحرّة.. بين المتاح الممكن وبين الممتنع المستحيل؛ تمضي تجربة الحياة حائرةً متردّدة، لا مستقرّ لها ولا جهة للاطمئنان ترسو عندها القدم. القلقُ قدَرُ الكائن، وأنى سعى سيظلّ الصوت الخافت شوكةً تدمي تذكّر بالقيد وبانفتاح الهاوية، وأنّ محاولة الرتق هي مزيدٌ من الفتق؛ لا يسدّ ولا يلحم.
الشاعر ياسر العتيبي في إصداره الأول حياة ممكنة (دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة ـ 2010) يقارب أصوات الحياة المتعددة، ويقف مليِّاً عند أصواتها الخافتة؛ الماكثة والعابرة. يتأمّل ما ينعقد أمامه في أفق الحياة المراوغ، وسرعان ما ينحلّ في ضبابٍ مأهول بما هو خفيٌّ وغريب وما يستعصي على التحديد. كتلةٌ مائعة تطلع من الذات كأنها قطعة منها، وبغموض تذوب وتتبدّد. لا شيء ينتمي إلى تلك الذات؛ وجودٌ يكاد يكون مشطوبا مطويّا في الزوال (كنت أحلم بأن يكون وجهي صديقي وأن تكون ملامحه أقلّ حدّة في النظر إلى الآخرين، وأن يكون معي عندما أحدّق في المرآة، ولا يتحرّك مع تلك الوجوه الغريبة ويختفي).
الانشطار بين وضعيّتيْن يمارس دورَه بحدّةٍ وثقل. العين التي تطالع المجرى بحركته الموّارة المتقلّبة والمستجيبة لصدى الحياة، ترتدّ بحسرة حين تركد هذه الحركة في الدّاخل وييبس فيها النّداء. تقرير حالة الاستعصاء التي تعيشها الذات، يزكّي المناورة والمناوشة؛ الدفعُ بالإرادة لتصوّب جهة الإمكان والتحقّق فيما يخصّ الذات وعالمها الذي تضطرب فيه: (الأشياء من حولي لا تتغيّر/ والعيش بطريقةٍ أخرى غير ممكنٍ في هذه الحياة.../ أريد للأشياء أن تتغيّر/ أريد أن تكون حياتي ممكنة).. (أريد عالما لا يضطر فيه أحدٌ/ بأن يشنق نفسه في الذاكرة/ أريد أن أطهّرَ تاريخ البحر/ من الغرقى).
هذا التأرجح البيني يعمل كمهيمنةٍ في جملةٍ من نصوص الكتاب. تنولد الحركة فيتبعها الكابح، تنبجس النافورة فيعتقلها المحبس. أبدا ليس بالمستطاع الانفكاك من أسر جاذبيّةٍ تحكم وتتسلّط وتبسط رداءها،وتشدّ إلى قبضتها الخانقة الإنسانَ والأشياء. المركزُ الذي تنعدم معه الأصداء الجانبيّة إلا بما يشبه الظلال وبما يدلّ على ثغرةٍ فاغرة: (أنا في اتّجاهٍ والجاذبيّة في اتّجاه/ وبيننا هاويةٌ وتفاحةٌ تسقط من بعيد).. (التفاحة التي أخرجتْ آدم من الجنّة/ تنتظر موتَ الجاذبيّة).. (..أبدّد الراتب في شراء العشرات من علب المغناطيس، ولا أعرف لماذا يقفون أمام هذه العلب بسخرية، وأنا أحاول بها أن أعيد ترتيب الجاذبيّة للحياة).
إنّ الرغبة المعتقلة في التردّد.. في الفراغ.. في الانتظار.. في فعلٍ يجري مجرى العبث، تعثر في الخيال على مسربها المواتي. الطاقة المتحررة من القيد وإكراهات الواقع ومن المنطق المنضبط بحدود الزمان والمكان.. هي الرافعة ومركبةُ البلوغ: (فلا أستطيع الوصول إلى أي شيءٍ من غير أن أربطه في مخيّلتي). الانطلاقة المرحة تخلو من التوقّع، وتمضي في تدبير المباغتات، حيث سهم اللهو يوزّع أضواءه ويرسلها إلى البقع الخالية، فتكشف عن مخبوءٍ تسربله الدهشة. كما يرسمه نص فراغ اللحظة يتّسع بالهواء فينبئنا عن اللحظة الفارّة من الساعة والمطاردة من شرطي الزمان. هي ذاتها اللحظة التي تتخلّى عن زمانيّتها فتغدو مكاناً يسع كرةً مركوزة في الهواءتشعُّ بابتساماتِ نجمة:
( 1 ـ اللحظة التي كسرتْ/ زجاجَ الساعة/ تلاحقها العقاربُ/ في كل مكان.
2 ـ يركل الكرة إلى أعلى/ تقف لحظةً وتسقط/ يركل الكرة مرّة أخرى/ تسقط اللحظةُ/ وتبقى الكرة معلّقة في الهواء/ فيتخيّلها نجمةً/ تبتسم من أجل قدميه).
الانعتاق من الجاذبيّة عبر بوّابة الخيال، يمرّ مثل شهاب. الحدود أكثر صلابة وأبعد منالا من أن تندحر. ثمّة حبلٌ غير مرئي وثقّالة غير منظورة لا يتركان غير مسافة قصيرة يقع في الروع منها أنها ممدودةٌ إلى ما لا نهاية وأن الفسحةَ حرّة ودون حساب.. لحظة وتنقضي، وتعود الأغلال: (فكلما اصطدمتْ قفزةٌ بالهواء/ وضع الليل كلتا يديه/ على فمه/ ووضعتْ اللحظةُ/ يدَها على الحياة).