كنا على مدار أكثر من ثلاثة عقود ماضية تقرع على مسامعنا مصطلحات جعلتنا في انعزالية تامة آنذاك، فقد كانت انعزالية في عمق تفكيرنا، وانعزالية في مساحات رؤيتنا للأشياء، وانعزالية تامة لما يدور من حولنا من أحداث ووقائع، وكان يراد لتلك الانعزالية التامة أن تكون ثقافة عامة لكل أفراد المجتمع، فقد كانت مصطلحات مثل: الطائفة المنصورة، ومصطلح فئة الغرباء، ومصطلح فكرة «ما أنا عليه وأصحابي» من الأمور المقدسة التي لا يمكن لأي أحد أن يتناولها إلا بشيء من الهالة القدسية وبالشرح والتفصيل المعزز للمعنى الذي يراد له أن يكون هو المعنى المتبادر للذهن، علما أن المعاني المتبادرة للأذهان هي تلك المعاني التي يتلقاها عارف العلوم العربية من حيث أدواتها الأعرابية وفقه لغتها الذي يرمي بها فتعلق منها المفاهيم الأولية التي يقررها على سبيل المثال علماء الأصول وفقهاء اللغة والقضاة الذي يصيغون الأحكام التي تعد سوابق قضائية وكأنها متون للتعليم، فتلك المعاني هي التي يطلق عليها هي المتبادرة من النصوص لمن يفقهها ويعلم مقاصدها ومراميها سواء القريبة أو البعيدة، فيقدم ما حقه التقديم من المعاني المتبادرة للأذهان والعقول، ويؤخر ما حقه التأخير من المعاني التي لا تتبادر للأذهان من أول وهلة عند التأمل للنصوص، فمصطلح الطائفة المنصورة الوارد في حديث افتراق الأمة إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار ما عدا واحدة، وهذه الواحدة وردت صفتها بما أنا عليه وأصحابي، وهو حديث من حيث الأسناد متكلم فيه أي أن هناك من العلماء من يرى عدم صحة هذا الحديث إسنادا، ومنهم الإمام الظاهري أبو محمد بن حزم في كتابه «الملل والنحل»، وكذلك عدم صحته من حيث المتن لمخالفته لنصوص من القرآن والسنة التي تحض على عدم الافتراق والتمسك بحبل الله المتين فهو حديث شاذ المتن وغريب من حيث المعنى، فهو حديث يقلص من رحمة الله الواسعة، وهو يخالف أفهام كثير من علماء الإسلام الذين يقررون أن جميع الطوائف الإسلامية التي لم تخرج من دائرة الإسلام هي تحت مشيئة الخالق المبدع، وأن هذه الطوائف ليست مخلدة في النار، ومن خلال الاستقراء العلمي في البحث في صحة اسانيد الأحاديث وضعفها فإن مناهج العلماء سواءً كانوا محدثين أو فقهاء أو أصوليين ممن له ارتباط وثيق بالاستدلال بالمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي تختلف اختلافا يكاد يكون متناقضا في الاستدلال في تلكم الأسانيد، فمنهم من يذهب مذهب التساهل، ومنهم من يذهب مذهب المتشدد وبينهما منطقة وسطية، بيد أن تلك المناهج ما هي إلا مسارات لأهل زمانها والظرف الذي كانوا فيه، وذلك أن المستجدات التي تتوالى في العصور تجعل الرؤية للمفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالأمور التشريعية تتغير بتلك الأمور المستجدة، فمسائل كثيرة جدا قد تتغير بتغير العصور والأزمان لتتلاءم مع الظروف التي عاصرتها، لذا فإن من صحح تلك الأحاديث التي تقرر افتراق الأمة إلى اثنتين وسبعين فرقة وأن جميع تلك الفرق سوف تكون في النار ما عدا فرقة واحدة، لا يكاد يتصور ما نعيشه من تقسيم للدول، وتوزيع للقوى البشرية والمادية، ولا يخطر في ذهنه ولو لوهلة ذلك التطور الهائل الذي وصلنا إليه، لذا فإن الظروف والمتغيرات لها فعل حقيقي في فهم نصوص التشريع لأن تلك الشرائع كانت ولا تزال هي لكل زمان ويمكن تنزيلها في أي مكان، وعلى ضوء تلك المتغيرات يمكن فهم تلك النصوص، ولقد كان محمود شاكر رحمة الله عليه له رؤية في فهمه للتاريخ وفصل العصور بعضها عن بعض لما يحدث من اختلافات ورؤى وتصورات، حيث إنه كان يرى «أن للعوامل الاجتماعية التي يكون من سلطانها أن تستبدل شيئا بشيء وجيلا بجيل، واجتماعا باجتماع، أكبر حجة في فصلنا ما بين القرنين الأولين من الهجرة وما جاء بعدهما؛ ولعل أعظم هذه العوامل أثرا هو انتشار الكتابة انتشارا لم يكن لها من قبل وابتداء استقرار تأليف الكتب على قاعدة جديدة لم تكن، وشمول التأليف في كل فن وعلم مما كان من فنون تلك العصور وعلومها. فإن ظهور التأليف والكتب في عصر من العصور يفصل كل الفصل بين هذا العصر والذي سبقه في نظر من يجرد نفسه لتأريخ هذه العصور». فلما يجتمع ضعف الأسانيد ونكارة المتن مع عدم توافق مع المقاصد الكلية للتشريعات الإسلامية فإن العامل الظرفي والمتغير الواقعي يكون له أثر كبير في قبول تلك الأسانيد من عدمها، وكذلك يخالف قاعدة أصيلة جاءت بها مبادئ الإسلام، وهي أن الجماعة هي عامة المسلمين الذين جعلوا متبوعهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يتعصبون إلا له ولما جاء به من الهدى والحق في الكتاب والسنة، فمن خرج عن الجماعة بتأويل فثابت له اسم الإسلام وولاء الإسلام، فالقول بأن هناك طائفة واحدة ناجية من طوائف المسلمين، وإن باقي الطوائف المنتمية للإسلام كلها في النار قول منكر وشاذ ولا يتوافق مع أصول ومحاسن مقاصد الشريعة التي أتت كي تنزع الناس من جهالات الظلم والقسوة إلى فضاءات الرحمة والعدل، والبحث في التحقيق لإيجاد تلك الطائفة المنصورة والتي سوف تكون هي الناجية هو بحث عن العدم والوهم وجريان في أودية المجهول، وذلك لأن التجربة أثبتت أن من يتمسك بتلك الأمور الغيبية لن يحقق إلا الفكر المتطرف الذي سوف يدمر المجتمعات وهذا كان واضحاً جلياً في حوادث معاصرة قد عشناها منذ أكثر من ثلاثة عقود في حادثة مشهورة كانت معروفة باسم قائدها والمنظم لها وهو (جهيمان) أو حادثة الحرم في بداية عام 1400هـ، وكذلك ما قامت به جماعة متطرفة كنا قريبة العهد وهي «داعش»، وفكرة حديث الرايات السود ومرج دابق. وكذلك حديث الغرباء الذي قد أمضى الباحثون الأكاديميون سنين طويلة في كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه في بحث مسألة غربة الدين ومصطلح الغرباء، ولا شك أن تلك الأوقات التي أمضاها أولئك الباحثون عن التأسيس لغربة الدين كانت مهدرة من حيث الإهدار الذهني والمالي وذلك أنها لم تنتج شيئاً مفيداً لتلك الجامعات والأكاديميات التي تبنت أولئك الطلاب الذي أصبحوا فيما بعد نجوماً بارزين في إنتاج الصحوة ومستلزماتها التي أحكمت قبضتها ردحا من الزمن على كل مستويات مجتمعنا، ولقد أمضى كاتب من الكتاب الدعاة الذين كان لهم التأثير الكبير على شريحة واسعة من شباب مجتمعنا في التأسيس لفكرة غربة الدين وفكرة الغرباء وفكرة الطائفة المنصورة، وهذه الأفكار هي أفكار انعزالية وانفصالية تؤسس لفكر رغبوي يحشد الظنون والأوهام للمريدين بأن هناك طريقاً يجعل تلك الطائفة المنصورة وأولئك الغرباء الذي هم في الحقيقة المتبادرة لأذهان أولئك المنظرون أنهم متصفون بصفات صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنهم يتسمون بكل سمات أولئك الصحابة وكذلك بسمات النبي- صلي الله عليه وسلم وذلك باختزال مصطلح وتعبير ما أنا عليه وأصحابي، بيد أن الواقع المعاصر لأولئك الأغرار الصغار عندما تبنوا تلك الأفكار الانعزالية وطبقوا ما يؤسس له ذلك الفكر الانعزالي فقد وجدوا الحقيقة الواقعية بأن زمانهم المعاصر لهم يتطلب فهماً دقيقاً ومختلفين عما كان يؤسس لها رموز غربة الدين والطائفة المنصورة، وأن الفهم الذي تلقوه عن تلك المصطلحات كان فهما شاذا وغريبا عن أصول ومقاصد التشريع الإسلامي، وأنهم قد تنكبوا عن حقيقة الطريق الصحيح وأصبحوا في مأزق كبير وهوة سحيقة، فإن لم يتركبوا عملا إجراميا بعد فإن ذلك من نسائم رحمة الله عليهم، وأما الطريق الأخرى فإن مصيرها إلى عذابات ترميهم في إشكاليات دنيوية وإشكاليات في الآخرة الله أعلم بما هو كائن فيها.