أحمد بني قيس

يشهد التاريخ أن جميع الدول التي تعرضت للاحتلال لم تتخلص منه إلا عبر وقوف القوى المناهضة كافة له صفا واحدا، وتحت لواء قيادة موحدة، مُغَلِبةً المصلحة العامة على مصالحها الشخصية، الأمر الذي مكّنها من دحر قوى الاحتلال الغاشمة، وطردها من أراضيها.

بينما نجد، في المقابل، أن التاريخ يؤكد أيضا أن جميع البلاد المحتلة، التي تشرذمت قواها الوطنية، وسيطرت عليها الصراعات البينية اللامسؤولة واللاوطنية، وغلب عليها في هذا السياق تجاهل الهدف الرئيس لأي بلد محتل، وهو التخلص من القوة التي تحتل أرضه وتصادر حريته، تسبب هذا التجاهل عند قوى تلك الدول، المتمسكة بصراعاتها الداخلية العبثية، في شعور المحتل بالطمأنينة والراحة والأمن والأمان بين ظهرانيها، ليكتفي فقط بمتابعة صراعاتها ونزاعاتها، التي يُسهم هو أحيانا في زيادة حدتها من خلال تأليب بعض تلك القوى على بعضها الآخر، متبعا في ذلك النهج سياسة «فرّق تسد»، لتحقيق غاية وحيدة له، وهي أن يظل هو في تلك الأرض «سيدا بين العبيد».

وسنكتفي في هذا الطرح باختيار مثلين عربيين، يؤكدان صحة ما سبق ذكره، الأول يتمثل في الحال الليبي حين تعرض للاحتلال الإيطالي الذي مارس أبشع أنواع وصور الاستبداد والتنكيل بالشعب الليبي، مما أوجد قوى مناهضة له، توحدت جميعها تحت قيادة عمر المختار، الذي رغم إعدامه لاحقا، فإن ذلك الإعدام لم يتم إلا بعد أن جعل ذلك البطل الهمام ورفاقه الأرض تتقد نارا تحت قدمي المحتل الإيطالي، الأمر الذي دفع إيطاليا، في نهاية المطاف، إلى التسليم والإقرار بحق ليبيا في الحرية والاستقلال، ومن ثم خروجها منها ذليلة كسيرة، في دلالة واضحة على مدى أهمية وقوة تأثير الوحدة بين قوى المجتمع المختلفة، وعمق أثر هذه الوحدة على الأرض عندما تتجاوز هذه القوى المختلفة تباين أجنداتها وأيديولوجياتها والقفز عليها، وعدم جعل هذا التباين يؤثر في تماسكها واصطفافها، ويهدد تحقيق هدفها الموحد، وهو طرد المحتل الإيطالي مهما طال بهم الزمن، ومهما بلغت التضحيات، وهذا ما تحقق.

بينما نجد، في المقابل، مثالا آخر على النقيض من ذلك تماما، وهذا المثال تعيشه أرض عربية أخرى محتلة، تسود قواها المختلفة حالة من الصراع، عمّقها ورسّخها محاولة كل طرف فيها فرض أجندته الخاصة على الطرف الآخر، مما جعل تلك القوى تعيش حالة من النفور والصدام الدائم، الأمر الذي وفر لمن يحتل أرضها حالة من الاستقرار والاطمئنان، وهذا تماما ما تعيشه فلسطين المحتلة منذ ٤٨ وحتى يومنا هذا، حيث يشهد واقعها وجود أكثر من أحد عشر فصيلا فلسطينيا، كلٌ له أجندته الخاصة، وكلٌ يحاول فرض هذه الأجندة على الآخر، مما جعل المحتل الإسرائيلي يعيش حالة من الاسترخاء، وجعلته يتشجع على التمدد والتوسع، دون أن يجعل ذلك الفعل العدواني القوى الفلسطينية تصحو من غفلتها، وتتنبه لأهمية تغليب المصلحة العليا للوطن على مصالحها الذاتية الضيقة، خاصة أن الواقع يؤكد أنها لن تحقق أي إنجاز يذكر ما دام تنافرها من بعضها البعض، وتآمرها على بعضها البعض هو «سيد الموقف».

يضاف إلى ذلك أن إسرائيل، شئنا أم أبينا، أصبحت الآن دولة معترف بها دوليا، على النقيض من فلسطين، وسبب هذا التناقض هو استمرار خلافات فصائلها المختلفة وصراعاتها وتشرذمها، وعدم توحدها، مما أضعف موقفها، وجعلها هامشية غير فاعلة وغير مؤثرة. وعلى الرغم من إدراك القوى الفلسطينية هذه الحقيقة، فإن ذلك لم يمنعها من الإصرار على استمرار نفورها من بعضها البعض، وتآمرها على بعضها البعض، فأصبحت قضية فلسطين جراء ذلك قضية مهمشة وشبه منسية عالميا، ولا يبذل العالم أي جهود حقيقية صادقة لحلها حلا عادلا ومنصفا.

أخيرا.. أقول إن التحرر من رعونة الاحتلال وظلماته لا يحققه إلا التكاتف والتآزر وتوحيد الجهود، وعدا ذلك سيجعل المحتل يتربع ويطمئن ويزداد بطشا وتنكيلا. وهنا سأجعل بقية الطرح يتناول قضية فلسطين، بحكم أنها قضية الأمة ككل وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، على الرغم من أن الكثير من الفلسطينيين يعادون معظم قطاعات هذه الأمة ويخونونها، في تجاهل واضح من قِبَلِهم لأهمية التحالفات، وأهمية استقطاب كل الدول التي تتعاطف معهم ومع قضيتهم، ويضاف إلى ذلك أن عليهم التوقف عن هذه الصراعات العبثية الدائرة بين قواهم وفصائلهم، وإلا فإن قضية فلسطين سيتدهور حالها أكثر مما هو متدهور حاليا.