محمد الدوسري

الكتابة في مبدأ القدر هو مسلك ذو مزالق ومظنة انتكاسات لكثير من العقول المتعالية للحكمة والبالغة من الثقافات مبلغاً حدوده كانت بعيدة وعميقة جداً، بيد أن شيئاً ما حدث لتلك العقول جعلها تبتعد عن إصابة محيط الظن الممكن قبوله مقاصدياً من خلال قواعد التشريع، وقد أكون لستُ مبالغاً إذا قلتُ إن القدر هو أصل أصول الإيمان والاعتقاد وهو رمانة ميزان عقل وانفعالات هذا الإنسان منذ نشأة الخليقة، وحتى عندما بُعثت الرسل. وكانت تلك القصص التي سطرتها الروايات المتواترة قطعية الدلالة وغير المتواترة من أخبار الآحاد القطعية الدلالة وغيرها مما تحمله من دلالات ظنية تتفاوت في قبول العقل لها، ما بين القبول التلقائي لها كما هي دلالة النص المتبادر من قراءته لأول وهلة، وما بين ذلك النص الذي يحمل وجوهاً كثيرة ومترددة في ترجيح أحد تلك الفهوم على غيره بلا مرجح، فتبقى نصوصاً ذات تاريخية مميزة، فيتم إعمال المرجحات العقلية في كيفية قبول دلالة النص الذي نُزعت منه الهالة القدسية التي تتسم بمميزات الوحي المنزل، وعلى ضوء تلك المرجحات يمكن قبول أي من تلك الروايات أو رده دون إنزال من رفعة أو مقام عالم قد خالف تلك المرجحات، وذلك لتعارض الأدلة ودلالاتها في تبني رأي معين. فالقدر كما تقرر لدى كل مسلم هو ركن من أركان الإيمان الستة ولا يتم اكتمال إيمان المسلم إلا به، وهذا الركن هو الركن السادس الذي ورد في أحاديث كثيرة جداً وهي أحاديث وأخبار قد تلقاها علماء الإسلام على اختلاف مللهم ونحلهم بالقبول (وتلك الملل والنحل المقصودة هي ما كانت واقعة في دائرة الإسلام ولم تخرج منه بإجماع قطعي الثبوت)، وهذا القبول هو القبول المجمل غير المفصل ويعني بأن المسلم يجب أن يؤمن بالقدر خيره وشره في العموم. بيد أن تفاصيل ذلك الإيمان قد وقع فيه اختلاف كبير جداً منذ العصر الأول وحتى عصرنا الحاضر، بل إن هذا الأمر وهو البحث في دقائق وتفاصيل القدر يتكرر كثيراً جداً، وخصوصاً لدى شبابنا المعاصر، وقد وجدتُ أن حواراً بين شابين قد تخرجا من كليات الشريعة في بلادنا بعدما تعرضا لهذا الانفتاح الكبير من خلال الانفجار المعلوماتي، فقد أخذ ذلك الحوار منحىً وفهماً آخر ويبحث في معتقدات كان البحث فيها من المحرمات، بل إن باب البحث العلمي الأكاديمي المعرفي قد تم إغلاقه ولا يمكن فتحه، ومن يجرؤ على فتحه فإنه معرض للتكفير والتبديع والتفسيق، بل ولا يمكن استبعاد أن تتم محاكمته بأنه قد ارتد عن الدين الإسلامي، علماً بأن البحث الذي كان حول الفعل الإنساني كان معروفاً منذ عدة قرون، وصيغة ذلك الحوار والبحث تتمثل في سؤال يتردد كثيراً وهو: هل الفعل الإنساني مخلوق لله أي أن الذي خلق ذلك الفعل هو الله عزو جل أم أن الفعل الإنساني هو من عنديات هذا الإنسان، وأنه هو من أبدعه وكونه وأنشأه، وإذا كان الإنسان هو من كونه وأبدعه وأنشأه كيف يتم تخريج إيماننا المتقرر بأن كل شيء بقدر الله، وأن ما في هذا الكون لا يخرج عن سلطان وقدرة الله عز وجل، وهل فعل هذا الإنسان الذي أبدعه هو خارج عما خلقه الله، وهل تلك المشيئة المستقلة لهذا الإنسان هي خارجة عن تكوين ومشيئة الخالق المبدع. ذلك الحوار بين ذينك الشابين المثقفين كان مستمراً خلال عدة أزمنة متفرقة، بيد أن ثقة بعضهما ببعض قد جعل كل واحد من ذينك الشابين يُلقي بكل ما لديه من معارف وعلوم كي يُسهم بحل تلك الإشكاليات الفكرية العقلية العقدية التي كانت ولا تزال تُراود أفكار وعقول كثير من شبابنا، بيد أن الخوف من جوانب كثيرة، الخوف الديني، والخوف القضائي، والخوف المجتمعي، والخوف التنفيذي الذي له سلطة تنفيذية، والخوف العلمي والأكاديمي والمعرفي الذي يُحيط بمجالات العلم المعاصر، جعل من تلك المسائل وكأنها أسرار من العلوم اللدنية التي لا يمكن الوصول لفهمها أو معرفة أصولها إلا من اشخاص ليسوا معروفين على وجه التعيين، كما يظهر من كثير من الكتابات والرؤى التي تبحث مسائل القدر، فتتم الإحالة إلا أن بحث تلك المسائل هي لمن هو راسخ في العلم. بيد أننا لا نجد أحدا على التعيين يمكن أن يتصدى لتلك التساؤلات التي تُحيط بأفكار وعقول شبابنا وفتياتنا في واقعنا المعاصر، وإما أن مسائل القدر وما يتعلق بالتوفيق بين قدرة العبد ومشيئته وقدرة ومشيئة الخالق عز وجل لا يمكن فهمها إلا من قبل الخالق فقط، فهو قد جعل سر فهم تلك المسائل القدرية في علمه الأعلى فلا يمكن الوصول إليها، وهذه طامة كبرى قد تجعل تلك العقول ترتد على أعقابها، فبدلاً من أن تكون عقولاً تحاول فهم تلك المسائل العقدية لكي ترتقي معارفها في فهم أصول الدين، وإذا بها تنقلب على تلك الأصول فتكون معادية لها ومنفرة منها، فينشأ لدينا جيل مهزوز فكرياً لا يقدر على التمحيص والتفكير والتعليل للحوادث، ولا يمكن أن يستوعب التصورات المطروحة أمامه، وإن البحث في مسائل التعليل وجزئيات القدر المتعلقة بأفعال العباد يجب أن يتم تصورها وفهما فهماً جيداً حتى تستقيم حياة مجتمعات الشباب المعاصر، الذي تُحيطه مخاطر اللادينية المنفلتة عن كل القيود. وهذه اللادينية لا تنتظمها أية قواعد ولا تحدها أية قيود فهي مدمرة لكل مجتمع تأتي إليه، فتجعل ذلك المجتمع مجتمعاً محطماً فكرياً بسبب عدم القدرة على التعامل مع المتناقضات ولو كانت نصوصاً مقدسة قد آمن أهلها بها أنها وحي منزل من الخالق. وجملة القول في مسألة أفعال العباد وقدرتهم على إنشاء أفعالهم وقدرتهم غير المقيدة في توجيه إراداتهم إلى الأفعال المخصصة لتلك الإرادات أن هذا الأنسان لديه قدرة حرة مستقلة وهو من يُنشئ فعله وهو المسؤول عن ذلك الفعل، وهذه الجزئية الإيمانية هي التي أبدع فيها علماء المعتزلة رحمة الله عليهم، وأن هذا الإنسان ليس مكلفاً بما لا يقدر عليه وأن التكليف بالمستحيل محال وتمجه الأنفس قبل العقول. وهذا لا يتعارض مع قدرة منشئ الكون ومبدعه وهو الخالق عز وجل، وذلك لأن هذا الخالق المنشئ والمبدع لهذا الكون هو من أودع في هذا الإنسان تلك الحرية المستقلة، وكلفه بتكاليف داخلة في استطاعته، وذلك لأن الظلم منفي عن مبدع هذا الكون لأنه ليس في حاجة إلى هذا الظلم، وأن أفعال هذا الخالق هي عدل محض وهذا ما يتوافق مع العقول في جميع العصور، وكذلك يتوافق مع القرآن المنزل في إثباته الإرادة والاستطاعة لهذا الإنسان وأن التكليف بالمحال لا يمكن وقوعه في فعل منشئ ومبدع هذا الكون. وإن الركون إلى جبرية بعض العلماء ونفيهم تأثير الأسباب لا تقبله العقول المؤمنة فضلاً عن العقول غير المؤمنة، وقد كان ذلك النفي للتعليل وعدم تأثير الأسباب سبباً في الكسل الفكري والثقافي والتردي بين الأمم، وذلك بتبني فكر جبري محض، وإن كان مغلفاً ببعض النصوص الدينية لأن الحوار حول تلك الأقوال الجبرية كان موصداً أمام المجتمع الفكري والثقافي، ومن يجرؤ على اقتحام مسائل الفعل الإنساني ومحاولة فهمها أو حتى بحثها بحثاً علمياً محايداً فإن سهام التكفير والتبديع سوف تصيبه، لذا فإن من أهم عوامل تطور المجتمعات هو فتح الباب كاملاً أمام الحوارات العلمية الدقيقة التي كانت مقفلة أبوابها في السابق، وخصوصاً مسائل تمس التفكير الجمعي المؤثر في حركة الثقافة والفكر، وتأصيل تلك الحوارات بقواعد علمية دقيقة حتى تنفي تلك الحوارات من طريقها، من لا يملك مقومات وقواعد البحث العلمي الدقيق، وتتضح الصورة البيضاء لأهل المعرفة والثقافة كي يُسهموا في رفع المستويات المعرفية للمجتمعات، ولكي تتراجع الظواهر الصوتية التي نشأت منذ اختراع آليات وأدوات التواصل الاجتماعي.