حبي وعشقي لأبي حيان الأندلسي صاحب أعظم تفسير علمي ونحوي وصرفي وهو البحر المحيط، وصاحب كتاب التذييل والتكميل شرح كتاب التسهيل لابن مالك النحوي والمعروف بأنه صاحب الألفية المشهورة في تقرير قواعد اللغة العربية، وهذا الكتاب التذييل يدل دلالة يقينية أن أبا حيان إمام عبقري حجة لم يأت أحد مثله في العربية في نظري. الهيام بأبي حيان الأندلسي جعلني أتتبع كل ما يتعلق بكتبه وسيرته وكل رحلاته وسكناته وتفاصيل حياته، وكل ما كُتب عنه واقتناء كل مؤلفاته المخطوط منها والمطبوع، ومن هذا التتبع كنت أجدني أمام مصر أم الدنيا كما تسمى في وقتنا المعاصر، وهي حقيق بهذا الاسم المتعارف عليه والذي ارتضاه أهلها لها. ولا شك أن العرف دليل عقلي متأسس على الاستقراء، وهو معتبر شرعا لذلك قرر الفقهاء والأصوليون أن من القواعد الكلية في قواعد الفقه التي تحكم الفتوى والاجتهاد والتي يجب اعتبارها ولا تجوز الفتوى أو إصدار الحكم الـشرعي دون اعتبار هذه الـقـاعدة الـكـليـة وهـي أن (العادة محكمة)، فكان لزاما علي أن أقرأ كل ما وقعت عليه عيني أو مسته يدي عن إقليم مصر، فكانت تروق لي كثيرا جدا القراءة عن مصر أم الدنيا، تاريخها وعلماءها وفقهاءها وأصولييها ونحاتها ولغوييها ومؤرخيها وكل ما يتعلق بأحداثها ووقائع يومياتها في كتب التاريخ وكتب التراجم والطبقات وكل ما يرد في ثنايا كتب الفقه والأصول واللغة والنحو عن مجريات ووقائع تأريخ مصر، ذلك أن هذه الكتب وإن كانت ليست كتبا تأريخية في الأصل إلا أن تجربة البحث علمتني أن كل معلومة لها مظان ظاهرة ومعروفة لدى كل أحد وهناك مظان خفية وغير ظاهرة تكون في مظان تبدو لأول وهلة أن تلك المعلومة لا يمكن أن تكون موجودة في تلك الكتب، إلا أن إدمان القراءة والاطلاع والبحث تجعلنا نقرر قاعدة قد لا توجد في الكتب وهي أن مظان المعلومات الخفية هي مصدر من مصادر المعلومات التاريخية ويتوجب الاهتمام بها، وبهذه المظان الخفية يظهر للمطلع قوة أو ضعف البحث العلمي، فهذه قاعدة مهمة في البحث ينبغي للقارئ أن يتمسك بها ويحفظها، لأنها متقررة بالتجربة العملية وسوف تفيده كثيرا. كنت أجمع كل شيء عن تاريخ مصر، وخصوصا ما يتعلق بالعلم والفقه والأصول والنحو واللغة والتاريخ، وكان كثيرا ما تقع عيني على الجامع الأزهر وما تمت الكتابة عنه من مؤلفات وما كتب عن مشايخه وعلمائه فتأسرني أحداثهم، وكيف كانوا متأثرين ومؤثرين في تلك الأحداث، فكان الأزهر ولا يزال محط أنظار العلماء في كل فن. ولا شك أن تاريخ الجامع الأزهر مليء بالأحداث والوقائع التاريخية سواء كانت العلمية أم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهذه الأحداث والوقائع أصبحت كتبا تاريخية تتم قراءتها وتدريسها في كثير من الأكاديميات، بل إن كثيرا من الجامعات على مستوى العالم أجمع تقبل رسائل الماجستير والدكتوراه في جانب من جوانب الجامع الأزهر سواء كان هذا الجانب في البحث عن سير علماء الأزهر من الفقهاء والأصوليين والنحويين واللغويين والمؤرخين ومن الشعراء والنقاد والأدباء، أو من علماء القراءات والمفسرين، وذلك أن هذا العلم وأعني علم القراءات وإتقانها إتقانا كما أنزل به الوحي مما تفرد به علماء الأزهر، وهذه مزية من مزايا كثيرة جدا تفردوا بها، فكان لهم قدم السبق في مجال القراءات وتدريسها ونشرها وبقائها في هذا العالم، وقد تكون تلك الدراسات الأكاديمية عن الجامع الأزهر في الجانب التاريخي التفصيلي للوقائع والأحداث سواء كان هذا في الجانب الاجتماعي لدراسات أحوال المجتمعات أم كان هذا الجانب لدراسة حقائق الدول وصعودها ونزولها وأسباب اضمحلالها وقوتها، لذلك فإن التاريخ يقرر أن الجامع الأزهر وما يحتويه من علوم له أهمية كبرى في قلوب المسلمين، بيد أن موضوعا كان يتراءى لي ويؤرقني كثيرا، وكنت أرقب هذا الموضوع وأجمع المعلومات عنه وهو موضوع فيه خلاف كبير وحقيقي بين علماء الأزهر وغيرهم من علماء المسلمين في أمور حقيقة تتعلق بأمور علمية، وهي مواضيع كبرى في مسائل الاعتقاد والمنهج في فهم تلك المسائل، وكذلك طريقة الفهم لمسائل الفقه وقبول الاختلاف فيها، ولكي تتضح الصورة في هذا الخلاف، فإن كل طالب علم في مجتمعنا سواء في المدارس التقليدية أم كان في الدراسات الأكاديمية يتعلم علوم الاعتقاد والأصول والفقه والتاريخ بمنهج وطريقة متقررة لدى علمائنا الأفاضل وهي طريقة التدريس على قراءة الكتاب والسنة تأسيسا على فهم السلف الصالح فيما يظهر لهم أنه فهم للسلف، لأن مسألة فهم النصوص بفهم السلف هي مسألة أصل الخلاف في عصرنا الحاضر، وهي مشكلة المشكلات العلمية التي كان لها الأثر العميق في كل ما نراه من شذوذ وتطرف خلال العقود الخمسة الماضية، وهذا المنهج يُقرره علماؤنا في كل تدريسهم لجميع متون الاعتقاد، وهي طريقة مبسطة وواضحة كما يتصورها علماؤنا، إلا أن علماء الجامع الأزهر، رفع الله قدرهم، يقررون تدريس متون اعتقادية غير التي يقررها علماؤنا الأفاضل في مجتمعنا، وكذلك المنهج والطريقة والفهم لجميع الأمور والتفاصيل الاعتقادية لدى علماء الأزهر تختلف اختلافا جذريا عن الطريقة التي يتم التدريس بها لدينا في مدراسنا وكلياتنا، وهذا الاختلاف حقيقي وليس شكليا، فقبل ثورة الاتصالات والمعلومات وانتشار قنوات التواصل الاجتماعي وخروج كثير من شروحات علماء الأزهر لكثير من المتون الاعتقادية للعلن وسهولة الحصول عليها والاستماع إليها، ولا شك أنها علم عميق وفيها من الفوائد التي استفدت منها كثيرا ولا أزال أتلمس فوائدها، ولا أزال أستمع لكل شرح استطعت أن أصل إليه، فقبل تلك الثورة المعلوماتية كان طالب العلم في مجتمعنا يعتقد أنه لا توجد طريقة علمية لفهم كتب الاعتقاد إلا ما سمعه من علماء مجتمعه، لكن طالب العلم إذا ما استمع لتلك الشروح المختلفة اختلافا جذريا عما سمعه واطلع عليه تتمالكه الصدمة المعرفية والاهتزازات العلمية التي إما أن تكون علامة ضوء ترتقي به لتوسيع معارفه ومداركه وارتقاء عقله لفهم حقيقة ومنطلقات وأسس معارف وأصول علماء الجامع الأزهر، وهو بهذه الطريقة سوف يجد علما كثيرا وسوف يجد مستوى معرفيا عاليا، وتتأكد لديه فهم أصول الخلافات العلمية ويدرك حقائق قواعد التعارض والترجيح في المذاهب العلمية والمعرفية، وإما أن يكون هذا الطالب الذي تعرض لتلك الصدمة المعرفية لديه قصور في البحث وعدم قدرة على بذل الجهد في محاولة القراءة والاطلاع على مناهج ومعارف غير التي قرأها في محيط مجتمعه، فهذا الطالب سوف يظل جامدا فلا يمكنه إدراك أي مجهود علمي وبشري للتقريب بين وجهات النظر وحل الخلافات العميقة والجذرية بين مدرسة الجامع الأزهر وغيرها من المدارس، وخصوصا المدرسة الأثرية التي تعتمد فيما تزعمه أنه فهم السلف، ولا شك أن طالب العلم الجامد أو العالم الذي يمثل هذه الطريقة المتوقفة عن إدراك المفاهيم من كلتا المدرستين هما من يؤججان حالة الكراهية الشديدة التي نلمسها في الأطروحات العلمية لكلتا المدرستين، وهذه الكراهية دائما ما ألمسها في شروحات كثير من علماء الأزهر لكل ما هو مخالف لما يقررونه من جوانب اعتقادية، وهذه الكراهية مزعجة جدا وهي صادة وعائق عن قبول أي حق أو علم أو معرفة تترجح لدى المدرسة الأزهرية على غيرها، وذلك أن نشر الكراهية والسخرية من الخصم ليست طريقا علميا لتأسيس القواعد العلمية وترجيح الأقوال على غيرها، ولولا خشية الإطالة في هذا المقال لسردت كثيرا من المسائل والخواطر عن الإشكاليات بين المدرستين، وما يعتري كل منهج، بيد أنني لعلي أبدي طرحا ينبغي النظر إليه بكل جدية ويتوجب على كل مسؤول أن يتوجه لحل الخلاف بين المدرستين الأزهرية والأثرية ومناقشته بكل تفصيلاته، لأن تأثيرات الخلاف بين المدرستين تكاد تكون ملموسة في كل مجال ولدى كل تيار أو حزب حتى غير الدينية، وهذا من غرائب المسائل، إلا أن الحياء وغض الطرف هما المرجحان الآن في عدم ظهور نتائج الصدام الحقيقي بين المدرستين، مع العلم أنه يظهر جليا في أدنى موقف خلافي وتتصاعد منه الكراهية المقيتة والمؤذية لإنسان مجتمعاتنا، فهذه دعوة لكلتا المدرستين إلى بذل الوسع والجهد في فهم منطلقات الآخر، لعل ذلك يكون مسلكا لتوسيع المعارف والارتقاء بالمعارف لدى أفراد مجتمعاتنا.