ياسر الغسلان

الانطباع العام لدى معظم المتابعين العرب هو أن إدارة بايدن نسخة متطابقة أو ربما محسنة من إدارة أوباما، باعتبار أن الرئيس الجديد خدم خلال تلك السنوات الثمانية نائباً للرئيس، الذي حدثت في فترة رئاسته العديد من الأحداث، وأنجزت العديد من السياسات التي قد لا تكون لها شعبية في الوطن العربي، من ثورات شعبية في عدد من الدول العربية، إلى تخاذل في دعم ثورات أخرى، كتلك التي وقعت وما زالت تبعاتها إلى اليوم في سورية، إلى جانب القضية الأكبر في نظر المحيط الخليجي وهي الاتفاق النووي مع إيران.

على الرغم من أن سياسة الرئيس أوباما لم تكن في صميمها تتعامل مع المنطقة العربية باعتبارها حليفا إستراتيجيا وفق النمط التقليدي، إلا أنها في الوقت ذاته لم تكن بالكامل منقلبة على أهدافها الإستراتيجية في المنطقة، والتي تضع الأنظمة المستقرة حجر أساس لها، فدعمت حرب السعودية في اليمن ومجهوداتها في الحوار بين الأديان، والحرب المشتركة على الإرهاب بتنسيق مع باقي الحلفاء التقليديين في المنطقة، إلى جانب محاولات فيتو أوباما إسقاط قانون جاستا.

اليوم ونحن نشهد واقعا سياسيا جديدا مختلفا تماماً عن سنوات ترمب، من المهم النظر لهذه الإدارة الجديدة من منطلق ما تقوله لنا المعطيات لا ما تردده الأصوات المرتبكة، أو المحللين الذين تسيرهم أجندات البروباغندا السياسية، التي لا تعي أن سياسة أمريكا تبنى على المصالح بصرف النظر عن المبادئ، رغم أن المبادئ كانت وستستمر الذريعة التي تستخدمها الإدارات الأمريكية في التفاوض والمناورة، فهذه هي أمريكا وعلى من يريد العمل معها عليه أن يستوعب كيف تدير أقوى دولة في العالم علاقاتها مع العالم، فإما استيعاب هذه القضية والعمل وفق المساحات التي تتيحها، وإما اتخاذ قرار ككوريا الشمالية واللعب خارج سرب المنظومة الأمريكية.

بايدن يأتي للمنطقة العربية وفي ذهنه عدد من القضايا التي ولدتها فترة ترمب، أولها انحسار الحريات المدنية وتصاعد الحس القومي الوطني، والذي خلق حالة من فوضى سياسية أنتجت شعورا بأن للدول الحق في التدخل في شؤون الدول الأخرى والسيطرة على سياساتها، مما ولد شعورا لدى عدد من الدول بأحقيتها بأن تكون شرطي المنطقة، في وقت كانت وستبقى إسرائيل في نظر أمريكا هي الشرطي الوحيد للمنطقة عبر احتكارها للسلاح النووي، والذي يجب وفق المنهج الأمريكي أن يكون الواقع الذي يجب أن لا يتغير. الفرق بين إدارة ترمب وإدارة بايدن هو أن الأول يريد أن ينعزل ببلاده وكلف مقاولين محليين وفق الوصف الأمريكي لأداء عمل أمريكا في المنطقة، في حين بايدن لا يرى في هذا الأسلوب إلا إضعافا حقيقيا على المدى المتوسط والبعيد للدور الأمريكي على مستوى العالم. فحل النزاعات لا يكون من خلال فسح المجال للدول الإقليمية لخلق صراعات جديدة يكون حلها مسؤولية تلك الدول، بل الصراعات وفق بايدن وحزبه هي وسيلة يجب أن تبقى بيد أمريكا لكي تملك مفاتيح الاستفادة منها سياسياً وعسكرياً، واستغلالها لخدمة الأجندة الأمريكية العليا التي تتمثل بخلق حالة فوضى يمكن السيطرة عليها، فثورة مصر التي وقعت أيام أوباما وأسقطت حسني مبارك مثلاً شهدت في أيام أوباما كذلك تنصيب السيسي ودعمه، وهو الرئيس الذي لا يختلف من حيث بنية النظام الحاكم عن حليفهم السابق الذي يقال إنهم أسقطوه، وعليه فإن كان بايدن يشبه أوباما فإن القول إنهم أصحاب مبادئ راسخة يعد مجرد كلام للاستهلاك الشعبوي والإعلامي، لا تثبته الأحداث ومواقف تلك الإدارة المتلونة.

أما الاتفاق النووي مع إيران فهو مسار سيعاد تفعيله، ولا طائل من التمني بالقول أو العمل على محاولة إفشال أو شيطنة هذا القرار الذي تبناه بايدن وحزبه، حتى قبل الوصول للبيت الأبيض، بل من الواجب العمل مع إدارة بايدن بالطريقة التي تمنح مقعدا على طاولة التأثير والمفاوضات من خلال التقارب مع الإدارة الأمريكية في المواقف، فلا نتصور أن تتعامل أمريكا مع دولة لا تقدم قيمة مضافة للمفاوضات بذات الطريقة التي تملكها دولة لديها القدرة على إحداث التأثير على أرض الواقع، فإسرائيل مثلاً قتلت فخري زاده لتقول لأمريكا إنه إن لم يسمع صوتنا فإن لدينا القدرة على إفساد مساعيكم، وذلك من منطلق مكانة إسرائيل في الذهنية الأمريكية باعتبارها الولاية الواحدة والخمسون لأمريكا، والوكيل الشرعي لها في المنطقة، فهي تشبه أمريكا اجتماعياً ومن حيث النظام السياسي والتكوين الاجتماعي، بينما النفط الذي كنا نستخدمه كعرب تاريخياً كوسيلة للضغط على أمريكا لم يعد اليوم قيمة يمكن أن تكون عامل تأثير في القرار السياسي الأمريكي، مع تحرر أمريكا من نفط العالم واتجاهها التدريجي نحو الطاقة البديلة، إلى جانب الاختلافات الكبيرة بيننا وبين أمريكا من حيث التركيبة الاجتماعية والأنظمة السياسية وما ينتج عنهما من اختلاف، الأمر الذي يفقدنا كعرب قيمة إسرائيل المضافة في التشابه الاجتماعي والسياسي مع أمريكا.

إن كان البعض يفضل الركون للخطاب التعظيمي والاعتماد على الإستاندات التاريخية لقراءة العلاقة مع أمريكا باعتبارها المقياس لطبيعة العلاقة مع إدارة بايدن المستقبلية، فيؤسفني القول إن كل ذلك ليس إلا أوهاما لن تصمد مع متغيرات السياسة والوضع الإستراتيجي للمنطقة، فدور وأهمية الدول في المنطقة اختلف عما كان عليه قبل عشرة سنوات، وعناصر التفضيل بين الحلفاء خصوصاً العرب ليست كما كانت، فعناصر جديدة دخلت على الخط وتصدرت المشهد، إضافة لنهوض وتصدر الاتجاه التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، والذي لا يرى أسسا لعلاقة إستراتيجية مع حليف لا يشبه أمريكا أو يحاول أن يحتذي بأسسها.

العلاقة مع بايدن ستتطلب إعادة ترتيب الأولويات والإستراتيجيات لكيفية التعامل مع محيطنا ودورنا في العالم، لا من خلال اجترار وإعادة تغليف واقعنا الماضي، بل من خلال إعادة تصدير مقومات القوى التي تراها أمريكا في حلفائها، فالقول إن أمريكا لا تحب أن تتعامل إلا مع القوى يتجاهل أن أمريكا كانت أول من تخلى عن شاه إيران وإنها كانت القوى التي واجهت وأسقطت الخصم الشرس الاتحاد السوفيتي.

بالمختصر، يمكن القول إن بايدن لا يريد أن تكون إيران شرطي المنطقة، كما أنه لا يريد أن يكون لأي دولة أخرى أفضلية هذا الدور، فاستمرار التشكك بين الأطراف هو المطلب البايدني، ولكن تشكك يمكن من خلاله بناء علاقات تخلق حالة من الاستقرار المشوب بالحذر، فيستمر بيع السلاح وتستمر أمريكا كضابط إيقاع للمنطقة، وتستمر الدول بالاعتماد على أمريكا سياسياً واقتصادياً في وقت يبقى التفوق العسكري والسياسي حكراً لإسرائيل.