نايف عبوش

اللافت للنظر حقا أن الجيل الجديد من الشباب يكاد، بفعل تداعيات العصرنة الصاخبة والتصاقه الشديد بالواقع الافتراضي وانغماسه الكلي فيه وتماهيه التام مع معاييره، منفصلا عمليا عن واقعه الاجتماعي الحقيقي، وبالتالي فإنه لم يعد يتفاعل مع الوالدين والجدات والآخرين من أقرانه ومجايليه بروحية وحميمية الجيل السابق نفسها.

وهكذا بدأ الجيل الجديد يفقد دفء العلاقة العاطفية مع العائلة والأقارب والمجتمع، ويخسر التواصل مع ذاكرة الماضي بالانفصال عن مجتمع كبار السن، وغياب حالة الترادف معهم، وخسارة الاستماع لمروياتهم في أحاديث السمر بالمجالس، وخسارة تلقي أحجيات الجدات التي كانت سائدة في مساءات أيام زمان الحالمة. غابت ظاهرة تواصل الأجيال بالترادف، بالتواصل المباشر، وتفككت حلقات سلسلة انتقال التراث من السلف إلى الخلف بالسياقات التقليدية الموروثة، التي حتى إن كانت في جانب منها ذات طبيعة خرافية أو أسطورية، إلا أنها كانت تترك في نفس الجيل من الشباب والصبية والأطفال ملكة الخيال الخصب، وتنمي لديهم القدرة على التصور، وتفجر عندهم طاقة الإبداع، وتزيد آصرة الألفة العائلية والاجتماعية متانة، من خلال أسلوب التواصل الاجتماعي الحقيقي التقليدي، حيث إنها آصرة مجتمعية تراثية متراكمة، متناقلة من جيل الى جيل.

وهكذا، فإن الجيل الجديد، بتداعيات العصرنة الصاخبة وانغماسه الكلي في العالم الافتراضي وتهافته على تقليد الموديلات الحديثة ومحاكاته الموضات المستوردة، وانهماكه فيها دون تمحيص، يكون قد انفصل عمليا عن واقعه الاجتماعي الحقيقي، حيث لم يعد يتفاعل مع الآخرين في وسطه العائلي والاجتماعي بروحية وحميمية الجيل السابق نفسها، وبدأ يفقد دفء العلاقة الروحية مع العائلة والأقارب والمجتمع، ويخسر ميزة التواصل المعنوي مع ذاكرة الماضي في الوقت نفسه، بعد أن بات يعيش حياة جامدة، بحس متبلد ووجدان جاف، على الرغم من كل ما تتيحه له حياته العصرية من معطيات إيجابية.

لا ريب أن تباشير هذا المأزق الاجتماعي بتداعياته السلبية باتت تدق جرس إنذار حقيقيا بتلاشي أحد أهم مصادر تشكيل أصالة الهوية الاجتماعية، مما يتطلب الانتباه لمواجهة سلبياتها بترشيد الاستخدام، والعمل على إعادة تنشيط واقع التواصل الحي، والترادف بين الأجيال في الأسرة والمجتمع، والنهوض بثقافة التراث في الوقت نفسه، والحفاظ على ما تبقى منه من الضياع، قبل أن تكنسه وسائل العصرنة الصاخبة، المفتوحة في كل الاتجاهات بلا قيود، فيصبح حاضرنا عند ذاك راهنا مقطوعا بلا جذور، ووجودا متبلدا بلا ذاكرة.