يبرز التشدد كأكثر الأمثلة على فرض الوصاية الدينية على الناس حتى كانت مشاريع الدولة الإصلاحية والتنموية محل اعتراض من قبل فئة تحاول أن تفرض ذاتها بشكل وصائي

يُطرح التنوير في الوسط الثقافي الفكري في أي مكان بوصفه أحد الخطابات التي تحاول أن تتغيا النهوض والإصلاح محاولاً أن يتموضع بشكل جذري في علاقة الناس بالحياة اليومية. العلاقة التي تحركها الأفكار ذات الاتصال بالإنساني أكثر من اتصالها بالأيديولوجيا الفكرية التي تنحاز للفكرة بغض النظر عن مدى تحقيقها لإنسانية الإنسان.
إن الإشكالية الفكرية التي دائما ما يحاول نقضها فكر التنوير هو علاقة الفكر السلطوي بالحياة أيا كانت أشكال سلطته: سياسية دينية اجتماعية معرفية أو غيرها ولذلك فالتنوير يريد أن ينحاز إلى علاقة الإنسان مع الكون بوصفه إنساناً قبل أي شيء آخر. ولذلك فنحن نرى تمحور الفكر التنويري حول إنسانية الإنسان بوصفه كائنا حراً، والحرية في جوهرها تبحث في تحرير الإنسان من عبوديته التي فرضها على ذاته على كافة الأصعدة. وانحياز التنوير إلى الإنسان هو انحياز للذات على السلطات المفروضة عليها ومن هنا نعرف سبب رفض الفكر التنويري من قبل الخطابات الأخرى كونها خطابات سلطوية الطابع بمعنى أن الأيديولوجيا الفكرية هي التي تسيطر على مجمل الحياة اليومية ومن هنا كان من الطبيعي أن تضع الفكر التنويري تحت القائمة السوداء كونه يسحب من هذه السلطات أهم قيمة تملكها وهي (السلطة).
ربما أكثر ما طرح فكر التنوير هي فلسفة العقل والعقلانية وتمحورت أكثر ما تمحورت على الإشكاليات المعرفية لكن هذه الإشكاليات ليست بعيدة عن الواقع اليومي المعاش، ولذلك حاول فلاسفة التنوير إعادة صياغة الواقع والقوانين الاجتماعية وصاغوا خطابا جديدا دفع بالإنسان الأوروبي إلى وضع أفضل حتى أصبحت قيم التنوير: (الحرية والعدالة والمساواة) أهم المقومات القانونية والاجتماعية والسياسية التي تحققت على أرض الواقع. هنا تحول التنوير من كونه فكراً فلسفياً خالصاً إلى مشروع للحياة اليومية، وما بنود حقوق الإنسان التي أقرتها أكثر دول العالم، بما فيها العربية، إلا التمظهر الأكثر جلاء لفلسفة الأنوار ومن هنا فإن كان الحديث عن العلاقة الوطيدة بين التنوير والإنسان رغم الإطار المعرفي الذي تأطر فيه التنوير.
في السياق الأوروبي الذي ظهر فيه التنوير كانت الوصاية الفكرية التي تتمثلها الكنيسة بالتعاون مع السلطة السياسية في وقتها هي التي قامت الأفكار التنويرية على نقضها وتقويضها من الأساس، فسلطة الأفكار الكنسية التي فرضتها على الناس في تصور الحياة والكون والأفكار التسلطية على المجتمع من خلال القوانين الاجتماعية التي لا يمكن الفكاك منها حتى وإن كانت على نقيض إنسانية الإنسان كانت محل نقد جذري من قبل فلاسفة التنوير بلا استثناء. لقد كانت الكنيسة ترفض أي تصور للحياة والكون من الناحية العلمية غير التي كانت مبثوثة في الكتب التي كانت معتبرة من قبل رجال الكنيسة أنفسهم، والتفسيرات العلمية التي لا تتوافق مع ما تتصوره الكنيسة فإنها كانت مرفوضة مطلقاً ومرفوض الحديث عنها، بل ويجبر من قدم تلك التفاسير بالتراجع عنها حتى ولو كانت الفكرة العلمية المطروحة لا تتعارض مع روح الدين المسيحي العام بوصفه دينا روحانياً قبل أن يتحول إلى مؤسسة دينية سلطوية الطابع على أيدي رجال الدين داخل الكنائس كل حسب مذهبه الكنسي، ووصل التناحر الفكري بين المذاهب الكنسية المختلفة حد الحروب التي دامت أكثر من مئة عام، ومن هنا سلط الفكر التنويري نقده لتلك الوصايا الفكرية التي كرستها الكنيسة، ولذلك كان شعار التنوير في ذلك الوقت: (كن شجاعاً واستخدم عقلك). وعلى بساطة هذا الشعار إلا أنه من الصعوبة استخدام العقل لأن الأفكار المهيمنة على حياة الناس أكثر مما يتصورها الواحد منا لأن استخدام العقل هو استخدام للملكة النقدية التي يتحلى بها هذا العقل، واستخدام الملكة النقدية يعني هدما لسلطة الفكر المسيطر كونه لا عقلاني، وهدم الفكر المسيطر يعني حربا فكرية على كل ما يناقض هذا العقل ولو بجزء بسيط ما يعني أن الإنسان سوف يقوض السلطات الفكرية كلها وهذا التقويض له ضريبته التي تصل للتصفية الفكرية والتي يمكن أن تتحول مع الوقت إلى تصفية جسدية من قبل بعض المتطرفين للفكر الوصائي كما حصل في أوروبا في فترة من الفترات.
قد يقول قائل: وما علاقة ذلك بنا كعرب أو مسلمين؟. إن السياق الذي تتحدث عنه ليس هو السياق في الجانب الإسلامي..؟. هذا التساؤل في محله كون السياق التاريخي مختلفا إلى حد ما بين ما حصل في السياق المسيحي والسياق الإسلامي، لأن الإسلام لم يقرر سلطة كنسية بابوية كما حصل في المسيحية، والمعترض من هذا الزاوية يكون مصيباً كون الإسلام أعطى الإنسان الحرية في الاختيار، وأعطى العقل قيمة عليا، كما أن تعاليمه الكبرى تنحاز للإنسانية، وهذا كله صحيح من الناحية النظرية.
لا جدال في أن الدين الإسلامي براء من كل الإشكالات المتصلة بالمسيحية في تاريخها فهو لصالح الإنسان، كما جاءت المسيحية من قبل ولكن الإشكالية في التاريخ الفكري لبعض ممثلي الخطابات الدينية المتشددة التي تحاول فرض رؤاها على مجمل الحراك الثقافي أو الاجتماعي. نحن نعرف تلك المحاكمات التي جرت ضد الكثير من رموز التنوير في العالم العربي تاريخياً وما سيرة الفقيه الفيلسوف عنا ببعيد كونها السيرة الأكثر جلاء في التاريخ الإسلامي. في العصر الحديث يبرز التشدد كأكثر الأمثلة على فرض الوصاية الدينية على الناس حتى كانت مشاريع الدولة الإصلاحية والتنموية والتي تبحث في صالح المواطن محل اعتراض من قبل فئة تحاول أن تفرض ذاتها بشكل وصائي.
إن الوصاية الفكرية التي يفرضها البعض باسم الحفاظ على الثوابت لدرجة أصبح الاجتهاد فيها غائباً بالكلية عن السياق الإسلامي حتى مع تطور الأدوات المعرفية التي تعطينا قراءة إسلامية متوافقة مع العصر والحياة، هي ما يحاول الفكر التنويري تقويضها وبناء الفكر النقدي المعرفي الذي يؤصل حرية الإنسان في الاختيار مهما كان نوعية هذا الاختيار.