أعتقد أن قرار العودة إلى «حوش قدم»، روحا وجسدا.. شعرا وحياة وقيما، (لم يفارق الشاعر مسكنه طوال الـ 22 عاما. لكني أعني العودة بمعناها الأعمق) يساعدنا على فهم «نجم» كشاعر ظاهرة. فنجم في يقيني تجسيد عصري لشخصية «الخط» - بضم الخاء- في التراث والواقع، ولكنه خط شاعر، أو خط اختار الشعر كمجال لممارسة نشاطه المشروع والمتباهي به، والحائز أعلى درجات الإعجاب شعبيا، والمدان والمطارد رسميا. وشخصية الخط في الواقع والتراث المصري، مزيج من شخصية المتمرد الفرد، واللص الشريف في الأدب العالمي، والصعلوك كما عرفه التراث العربي الرسمي والشعبي، في شخصيات مثل عروة بن الورد، أو العيارين في العصر العباسي، الذين دافعوا دفاعا مجيدا عن الحضارة العربية، أو ابن قزمان الزجال الأندلسي، الذي أثر في الشعر الأوروبي في العصر الوسيط، بأكثر مما أثر فيه كل الشعر العربي، أو ابن عروس وأدهم الشرقاوي، وهي شخصية وإن اشتركت مع ما يسميه علماء الاجتماع بالإنسان المهمش، أو المنتبذ اللامنتمي في بعض الملامح، مثل «عدم التوافق مع التقاليد والأنسقة القيمية للمجتمع أو للفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها من حيث الأصل»، إلا أنها تختلف في أن خروجها على المجتمع، خروجا إراديا، وليس نتيجة عقاب مجتمعي، وهي الضبط شخصية الفاجومي التي يطلقها نجم على بعض النماذج البشرية التي عرفها، «الخط» خارج على الدولة وقانونها الذي لا ينصف الناس، وخارج على المجتمع، فيخلق الخط قانونه الخاص الذي يحقق به العدل والإنصاف على طريقته. إنه يأخذ من أموال الأغنياء ليعطي للفقراء، ويعاقب الظالم ويقتص للمظلوم حتى ولو لم يطلب منه ذلك.. يتخذ من المناطق الوعرة سكنا، ومن الأصدقاء المخلصين أهلا، وهو يدرك ألا تكافؤ بين قوته هو وأصدقائه، وبين قوة الدولة والمجتمع والقانون والعرف، لذلك فهو يسعى للتوازن مع هذه القوى الجبارة عن طريق الاستغناء شبه الكامل، فهو يخلع نفسه من المؤسسات الرسمية والاجتماعية، ولا ينتظر حتى تخلعه هي. إنه يستغني عن الوظيفة والراتب والملكية الخاصة والأسرة بمعناها التقليدي، وهو يستمد من الاستغناء قدرته الدائمة على المعارضة، وعلى رفض التكيف مع الواقع الفاسد، وهو يسعى إلى العدل المستحيل. و«الخط» في الغالب ابن فلاحين يذوب في داخلهم، بعد أن يثبت لهم قدرته على الدفاع عنهم، أو يلجأ إلى الحيلة والتنكر، (كان أدهم الشرقاوي يتنكر في شخصيات مختلفة ويقابل البوليس في كل مرة ويضللهم في بحثهم عنه). وأحمد فؤاد نجم تجسيد عصري لتلك الشخصية في حياته، كما أن شعره تعبير عن رؤية هذه الشخصية للحياة والواقع والفن. وهو وإن كان ابن فلاحين إلا أن شخصيته وموهبته وقيمه مستمدة من المدينة، ومن أهل قاعها تحديدا، وهو كما قلت قد اختار الشعر ميدانا للممارسة.
كتعبير يربط بين الكلمة والإيقاع والحركة الجسدية، كلوحة للمفاتيح العظيمة للطاقة الانفعالية للجماعة الإنسانية. وقد فعل ذلك قبله شاعران عظيمان من شعراء الشعب، هما عبدالله النديم وبيرم التونسي، ونجم مثلهما ينتمي إلى تلك الشريحة الاجتماعية التي تقبع في أسفل السلم الاجتماعي للطبقة الوسطى الصغيرة، وهي شريحة أعطت المجتمع المصري بعض أبنائه العظام كما أعطته بعض كبار السفلة! وكانت وقودا للثورات كما كانت رائدة للخيانات إليها ينتمي السادات كما ينتمي أحمد فؤاد نجم، وذلك سر إن الشاعر كان الأقدر على الثأر من السادات حيا وميتا يعرف كيف يوجعه وكيف ينفذ بكلماته إلى نخاعه.. ومن يقرأ قصائد الكلمات المتقاطعة والعنبرة والبتاع سيجد لوحة لعصر السادات ولشخصيته لا أبذأ ولا أصدق!
ولأن هذه الشريحة الاجتماعية كانت هي الأقدر خلال العشرين عاما الماضية على الحراك الاجتماعي أو الاتصال بين الفئات الاجتماعية المختلفة – فهي لذلك الأقدر على الاتصال بالتراث الشفهي والمكتوب بمعرفة القيم الجمالية لأوسع الفئات الاجتماعية، بالقدرة على النفاذ والانتشار بكل الطرق المتاحة، فهي لا تحترم المحرمات التقليدية ولا تحدها عقد البرجوازية الصغيرة ولا تستهويها ألعاب النخبة الفنية – كان الشاعر العظيم عبدالله النديم وقت التحضير للثورة العرابية يدعى إلى الأفراح والموالد والمآتم، لينشد شعره بعد فاصل الغناء أو الذكر أو تلاوة القرآن، ولم يكن يجد في ذلك ما ينقص من هيبته أو هيبة الشعر! وكان بيرم التونسي العظيم عندما تضيق عليه المسائل في إصدار مطبوعة رسمية، يصدر مطبوعة في أربع صفحات يكتبها كلها شعرا، ويسميها المسلة لا هي جريدة ولا مجلة، وعندما نفى من مصر كانت أشعاره تعبر البحر من تونس أو فرنسا لتصل إلى جمهوره الواسع رغم الرقابة والمنع والمصادرة.
وغني عن القول أن أحمد فؤاد نجم قد ورث كل هذا التراث الغني من الإبداع الشعري الحر، مضافا إليه إنجازات أجيال الشعراء المعاصرين في مصر كمال عبدالحليم وحتى صلاح عبدالصبور ومن فؤاد حداد وصلاح جاهين وحتى عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، وليس غريبا أن تتفجر طاقة نجم الشعرية بعد الهزيمة مباشرة في الوقت الذي آمن فيه الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور بأن كل شيء عبث، وراح بتأثير لويس عوض يبحث عن الخلاص بالحب أو الخلاص بالموت. وفي الوقت الذي أعلن فيه صلاح جاهين الانصراف التام عن كتابة الشعر انظر قصيدة نجم إلى صلاح جاهين، واتجه فؤاد حداد إلى صناعة الأرابيسك الشعري، وشغل الأبنودي نفسه بالهجوم على نجم بدلا من تصحيح طريقه الشعري. لقد اختار نجم المكان المناسب والزمان المناسب للانطلاق الشعري – إذا جاز التعبير – فمن جمهورية القاع، حيث تسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية دون خجل مرضي أو حذلقة تافهة، أو تواضع كاذب من الخطط الخلفية التي لم تهزم وإن كانت دائما تدعى إلى الحرب ولا تدعو إلى المؤانسة.. من هذه المواقع التي امتحنت لسنوات طوال فثبت لديها يقينا أن الحقائق البسيطة ما زالت أنصع الحقائق.
من أحد هذه الأماكن التي لا يذكرها المثقفون ذوو الجباه العالية والياقات البيضاء إلا عندما تحل الكارثة وتعم، خرج الشاعر أحمد فؤاد نجم ليرفع صوت الذين لا صوت رسميا لهم، وليذيع حكمتهم بين الناس بعد أن أفلست الحكمة الرسمية المصوغة جيدا نثرا وشعرا! لقد حول نجم وإمام «حوش قدم» تلك الحارة الصغيرة من حواري الغورية، إلى مزار لكل الباحثين عن الحقيقة الشعرية الجديدة والمفتقدة، ومن خلال آلاف المثقفين، وعن طريق أشرطة الكاسيت انتقل شعر نجم منشدا بصوت الشيخ إمام ليضرب في أركان مصر.
كتعبير يربط بين الكلمة والإيقاع والحركة الجسدية، كلوحة للمفاتيح العظيمة للطاقة الانفعالية للجماعة الإنسانية. وقد فعل ذلك قبله شاعران عظيمان من شعراء الشعب، هما عبدالله النديم وبيرم التونسي، ونجم مثلهما ينتمي إلى تلك الشريحة الاجتماعية التي تقبع في أسفل السلم الاجتماعي للطبقة الوسطى الصغيرة، وهي شريحة أعطت المجتمع المصري بعض أبنائه العظام كما أعطته بعض كبار السفلة! وكانت وقودا للثورات كما كانت رائدة للخيانات إليها ينتمي السادات كما ينتمي أحمد فؤاد نجم، وذلك سر إن الشاعر كان الأقدر على الثأر من السادات حيا وميتا يعرف كيف يوجعه وكيف ينفذ بكلماته إلى نخاعه.. ومن يقرأ قصائد الكلمات المتقاطعة والعنبرة والبتاع سيجد لوحة لعصر السادات ولشخصيته لا أبذأ ولا أصدق!
ولأن هذه الشريحة الاجتماعية كانت هي الأقدر خلال العشرين عاما الماضية على الحراك الاجتماعي أو الاتصال بين الفئات الاجتماعية المختلفة – فهي لذلك الأقدر على الاتصال بالتراث الشفهي والمكتوب بمعرفة القيم الجمالية لأوسع الفئات الاجتماعية، بالقدرة على النفاذ والانتشار بكل الطرق المتاحة، فهي لا تحترم المحرمات التقليدية ولا تحدها عقد البرجوازية الصغيرة ولا تستهويها ألعاب النخبة الفنية – كان الشاعر العظيم عبدالله النديم وقت التحضير للثورة العرابية يدعى إلى الأفراح والموالد والمآتم، لينشد شعره بعد فاصل الغناء أو الذكر أو تلاوة القرآن، ولم يكن يجد في ذلك ما ينقص من هيبته أو هيبة الشعر! وكان بيرم التونسي العظيم عندما تضيق عليه المسائل في إصدار مطبوعة رسمية، يصدر مطبوعة في أربع صفحات يكتبها كلها شعرا، ويسميها المسلة لا هي جريدة ولا مجلة، وعندما نفى من مصر كانت أشعاره تعبر البحر من تونس أو فرنسا لتصل إلى جمهوره الواسع رغم الرقابة والمنع والمصادرة.
وغني عن القول أن أحمد فؤاد نجم قد ورث كل هذا التراث الغني من الإبداع الشعري الحر، مضافا إليه إنجازات أجيال الشعراء المعاصرين في مصر كمال عبدالحليم وحتى صلاح عبدالصبور ومن فؤاد حداد وصلاح جاهين وحتى عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، وليس غريبا أن تتفجر طاقة نجم الشعرية بعد الهزيمة مباشرة في الوقت الذي آمن فيه الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور بأن كل شيء عبث، وراح بتأثير لويس عوض يبحث عن الخلاص بالحب أو الخلاص بالموت. وفي الوقت الذي أعلن فيه صلاح جاهين الانصراف التام عن كتابة الشعر انظر قصيدة نجم إلى صلاح جاهين، واتجه فؤاد حداد إلى صناعة الأرابيسك الشعري، وشغل الأبنودي نفسه بالهجوم على نجم بدلا من تصحيح طريقه الشعري. لقد اختار نجم المكان المناسب والزمان المناسب للانطلاق الشعري – إذا جاز التعبير – فمن جمهورية القاع، حيث تسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية دون خجل مرضي أو حذلقة تافهة، أو تواضع كاذب من الخطط الخلفية التي لم تهزم وإن كانت دائما تدعى إلى الحرب ولا تدعو إلى المؤانسة.. من هذه المواقع التي امتحنت لسنوات طوال فثبت لديها يقينا أن الحقائق البسيطة ما زالت أنصع الحقائق.
من أحد هذه الأماكن التي لا يذكرها المثقفون ذوو الجباه العالية والياقات البيضاء إلا عندما تحل الكارثة وتعم، خرج الشاعر أحمد فؤاد نجم ليرفع صوت الذين لا صوت رسميا لهم، وليذيع حكمتهم بين الناس بعد أن أفلست الحكمة الرسمية المصوغة جيدا نثرا وشعرا! لقد حول نجم وإمام «حوش قدم» تلك الحارة الصغيرة من حواري الغورية، إلى مزار لكل الباحثين عن الحقيقة الشعرية الجديدة والمفتقدة، ومن خلال آلاف المثقفين، وعن طريق أشرطة الكاسيت انتقل شعر نجم منشدا بصوت الشيخ إمام ليضرب في أركان مصر.