منذ ما يزيد على أسبوعين كان المشهد في السعودية صالحا لأن يوصف بأنه مخيف ومثير للذكريات الحزينة، فلقد عاودت صالات تداول الأسهم اكتظاظها بالمضاربين والمشتغلين بالسوق، وبدأت مكاتب الموظفين تشهد تسربا نحو تلك الصالات، وامتلأت شاشات أجهزة الكمبيوتر على مكاتب بعض الموظفين بمواقع التداول، وتمت استعادة ذات القاموس اليومي في حياة المهتمين بالسوق، وعادت مفردات التوصية والنزول والصعود والمؤشر.
الذكريات الحزينة هي تلك الذكريات القادمة من شهر فبراير عام 2006، فيما بات يعرف بالانهيار الشهير لسوق الأسهم، حيث هبط السوق من فوق مستويات العشرين ألف نقطة ليصل إلى قاع تبددت معه أحلام الكثيرين، وتحول بعضهم من مضاربين محترفين ومتمرسين على الكسب اليومي إلى أن تراكمت الديون عليهم وأصبحوا في عداد المدينين.
كانت أياما كبيسة للغاية، تحولت معها صالات التداول في البنوك إلى شيء أشبه بالشواطئ الكئيبة التي يتعرض مرتادوها للغرق، حتى أصبحوا حذرين من الاقتراب منها، وتناقل السعوديون عن أنفسهم عشرات القصص المؤلمة والحزينة عن أفراد دخلوا إلى المستشفيات وآخرين إلى السجون، بينما أطل سؤال لا يمكن الجزم بمدى منطقيته وهو: من المسؤول وأين ذهبت تلك الملايين؟ لا يبدو هذا السؤال ملائما لواقع الاقتصاد الحر، ولا لما هو معلوم عن سوق الأسهم من اعتماده على المضاربات وانعكاسات الأداء الاقتصادي في مختلف المجالات.
لكن السؤال الذي يبدو منطقيا ويحوي جوانب اجتماعية وثقافية هو: لماذا عاد السعوديون بذات الحماس إلى صالات التداول خلال الفترة القليلة الماضية بينما لا تزال آثار الجروح واضحة على محيا كثيرين منهم؟ يتعامل كثيرون من السعوديين مع سوق الأسهم على أنه فرصة للكسب بدون عمل، وبالتالي فهو بالنسبة لهم نوع من المال الذي لا يستدعي القيام بمجهود، مما يفسر الإقبال الأخير على السوق، بل ويشير إلى أن حالات الإحجام والإقبال على التداول ترتبط لدى الناس بما يتم تداوله بينهم من أحاديث وما يسجله السوق من ارتفاعات.
إذن سوق الأسهم لدينا (سماعي)، وهو ظاهرة يغلب عليها الصوت، ويتم التعامل معه بذات الفهم الثقافي الـعامي لدى الناس، أن تضع مالا في محفظة ثم تبدأ في الـشراء وتنتظر حتى يرتفع السهم لـتقوم ببيعه وتجني ما يتيسر لك من أرباح. هذه ذهنية صائد السمك أو الحطاب، الباحث عن قوت كل يوم بيومه. وقلة من السعوديين هم الذين يحتفظون بأسهم في شركة أو اثنتين ويواصلون زيادة أسهمهم فيها، ويجعلونها مصدرا لدخل سنوي، ويحضرون اجتماعات الجمعيات العمومية.
لم يجد الناس تفسيرا لما حدث بعد الانهيار الشهير في فبراير 2006 سوى قراءة ما حدث على أنه نوع من المؤامرة واتفاق بعض المتنفذين في السوق على الإطاحة به، وظهرت تأويلات واسعة جدا منها ما كان يستدعي الضحك أحيانا. ومع أنني أتفهم واقع كثيرين ممن عصف بهم السوق وخيب آمالهم وطموحاتهم إلا أن الجميع ربما بات متفقا على أن حالة الإقبال التي شهدها السوق قبل تلك الأزمة لم تكن منطقية، وكانت بحاجة إلى كثير من إعادة النظر.
يقول الملياردير جورج سوروز، وهو أحد أشهر المضاربين في أسواق الأسهم العالمية: إن صغار المستثمرين هم السبب في الخسائر التي تلحق بهم، لأنهم يرتادون أسواقا لا يعرفون ثقافتها ومجاهيلها. هذه المقولة يمكن أن تناسب في جزء منها واقع الإقبال على الأسهم في السعودية، فالذين تضرروا بالفعل هم من صغار المستثمرين، لكن المشكلة أن الذين عاودوا الكرة في الدخول والاندفاع نحو السوق هم أيضا صغار المستثمرين كذلك.
إننا أمام واقعة ثقافية واجتماعية، ربما في ذات الدرجة التي تعد فيها واقعة اقتصادية، مما يستوجب أن تتم مخاطبة ما هو ثقافي واجتماعي لدى الناس أكثر من مخاطبة وعيهم الاقتصادي والاستثماري، فالأسهم ليست مصدرا للحصول المجاني والسهل على المال، لكنها توجه استثماري كغيره من التوجهات الاستثمارية في العقار أو في التجارة أو في الخدمات، ثم إن الاتجاه إلى سوق الأسهم يجب أن يكون ناتجا عن ارتياح مالي لدى الفرد، وليس توجها ناتجا عن الضرورة والحاجة.
إن هيئة سوق المال، وهي تدشن بـاستمرار حـزمة من الإجـراءات الـتي تهدف إلى ضبط السوق وحمـاية المستثمرين وبخاصة الصغار منهم، تحتاج كذلك لبث المزيد من الأفكار عن سوق الأسهم.. أفكار تستخدم فيها منطقا ثقافيا واجتماعيا يسعى لنشر ثقافة السوق، وثقافة الاستثمار في الأسهم، وأنه ليس مجرد صالة وشاشة، بقدر ما هو ثقافة ووعي.