من الثابت علميا أنه من الصعب اختلاط المياه العذبة بمياه البحر المالحة نظرا لاختلاف كثافتيهما، مما سيتسبب في خلق نظام بيئي من المستنقعات العذبة، وستكون هذه المستنقعات العذبة بؤراً لتوالد البعوض والحشرات والجرذان

مشكلة التلوث بمياه الصرف الصحي أصبحت سمة من سمات المدن السعودية، فجميع مدننا وقرانا أصبحت تئن من أبعاد هذه المشكلة، التي لا أرى لها حلا في الأفق، بل على العكس من ذلك المشكلة تزداد تضخما يوما بعد يوم.
وقد ذكرت في أحد مقالاتي السابقة أن ما أنفقته الدولة على معالجة مياه الصرف الصحي في العقد الماضي فقط في مدينة جدة يوازي ميزانية دولة نامية! وأنا لا أبالغ في ذلك، فالأرقام الفلكية التي نسمعها عن إنفاق وزارة المياه والكهرباء على معالجة مياه الصرف الصحي، تحمل في طياتها تأكيدا لهذه المقولة، فالإنفاق لم يعد بملايين الريالات بل بمئات وآلاف الملايين!
ورغم هذا الإنفاق السخي من الحكومة إلا أن المشكلة تزداد تعقيداً يوما بعد يوم، وستظل تتفاقم ويزداد حجمها حتى تأتي على الأخضر واليابس! المشكلة ليست مادية كما أراها، ولكن هي أزمة ضمير! أزمة مصداقية! أزمة شفافية! أضف إلى ذلك أمية مطلقة في علم البيئة والتلوث!
بالأمس القريب احتفلت الشركة الوطنية للمياه بالتخلص من بحيرة المسك، بعد معالجتها معالجة ثلاثية، وبحيرة المسك كانت تضم بين ضفتها حوالي 40 مليون متر مكعب من المياه الآسنة، فكيف تمكنت شركة المياه الوطنية من معالجة هذا الكم الهائل من مياه الصرف الصحي، في هذا الزمن القياسي؟
أنا ـ في الحقيقة ـ فقدت الثقة، في كل ما يرد عن شركة المياه الوطنية من قول أو فعل! وفقدي للثقة في شركة المياه الوطنية يعود إلى تجاربي المريرة مع هذه الشركة بحكم تخصصي في مجال علم البيئة.
التجربة الأولى: هي محطة معالجة المياه في وادي عُرنة والتي تقع حوالي 40 كيلو مترا جنوب شرق مكة المكرمة، شيدت هذه المحطة منذ حوالي عامين تقريبا بمبلغ وقدره 250 مليون ريال، و منذ لحظات تشغيلها الأولى لم تعمل كما ينبغي لمحطات المعالجة أن تكون، فمياه الصرف الصحي تدخل المحطة غير معالجة سوداء اللون وتخرج من المحطة غير معالجة وأكثر سوادا, ولدي من الوثائق ما يثبت ذلك وقد تحدثت عن هذا الموضوع منذ أكثر من عام تقريبا، ولكن لا حياة لمن تنادي، لذا أضم صوتي لصوت أستاذنا الكبير الأستاذ عبدالله أبو السمح، في مناشدة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التدخل، في هذا الأمر إحقاقا للحق.
والثانية: محطة معالجة مياه الصرف الصحي في حدا التي بلغت تكلفة إنشائها 120 مليون ريال، تجربة أخرى من التجارب الأليمة مع الشركة الوطنية للمياه، وتمثل صورة طبق الأصل لما حدث لمحطة وادي عُرنة، حيث أضحت مياهها الآسنة تمثل تحديا بيئياً خطيرا على سكان حدا وهذا ليس حديثي وإنما حديث زميلي الدكتور فهد تركستاني المستشار بالرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة‎، وإذا لم يتدارك الأمر فمياه هذه المحطة بين عشية وضحاها ستصل مدينة جدة، ومن العجيب والغريب أنه أثناء اجتماعاتنا المكوكية قبل فاجعة جدة الأولى، لمناقشة الوضع الخطير لمحطة المسك، بناءً على توجيهات سامية، كان مندوبو أمانة مدينة جدة ينادون بمعالجة مياه بحيرة المسك في محطة حدا، تخيلوا محطة طاقة معالجتها لمياه الصرف الصحي لا تزيد على 120 ألف متر مكعب، يراد لها أن تعالج مياه بحيرة المسك التي بلغ حجم مياهها في ذلك الوقت 40 مليون متر مكعب، هكذا كانت تدور المناقشات في المجلس البلدي، وقد تأسفت على كل دقيقة أضعتها في تلك الاجتماعات.
عدم المصداقية وعدم الشفافية التي تتبعها شركة المياه الوطنية، تجعلني أتساءل ماذا سيكون مصير محطة معالجة مياه الصرف الجديدة التي ستنشئها شركة المياه الوطنية في مطار الملك عبد العزيز الدولي بطاقة تصل إلى مليون متر مكعب؟ هل سيكون مصيرها كمصير كل من محطة معالجة وادي عُرنة ومحطة حدا؟
من التجارب السابقة مع شركة المياه الوطنية، الإجابة بالطبع ستكون بنعم!
فتخيلوا مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي تقذف يوميا على سواحل الكورنيش الشمالي.. الكارثة ستكون مدمرة، والشركة الوطنية غير مدركة لأبعاد هذه المشكلة.
ومن المعروف والثابت علميا أنه من الصعب اختلاط المياه العذبة بمياه البحر المالحة نظرا لاختلاف كثافتيهما، هذا الأمر سيتسبب في خلق نظام بيئي من المستنقعات العذبة، على طول الكورنيش الشمالي، وستكون هذه المستنقعات العذبة مرتكزا للطيور المهاجرة وبؤراً لتوالد البعوض والحشرات والجرذان، الأمر الذي سيتسبب في تفشي الأوبئة والأمراض التي تنقلها هذه الطيور المهاجرة من موطنها الأصلي، كما نقلت في السابق يرقات البعوض المسبب لوباء حمى الضنك، وقد تحدثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في حلقات عديدة على صفحات هذه الصحيفة.