إذا كنا لا نستطيع التخلص من الواسطة فيجب علينا إغلاق أكبر قدر ممكن من الثغرات الموجودة في النظام، يجب استبعاد المعايير التي تخضع للحكم الشخصي وضرورة ترتيب المتقدمين للوظائف والمنح وغيرها
الكثير من الأشخاص يجدون أنفسهم ضحايا لما يمكن تسميته بالواسطة أو المحسوبية أو استغلال العلاقات الشخصية لسلب الحق المشروع للشخص المؤهل وإعطائه لمن لا يستحقه، أو من خلال تعطيل الحقوق المشروعة للناس واضطرارهم إلى البحث عن توظيف العلاقات الشخصية والمحسوبية للحصول عليها. لقد أصبحت هذه السلوكيات جزءا من ثقافة المجتمع السعودي، حتى إن بعض الأشخاص لا يذهب إلى هدفه إلا بعد البحث والتحري والمكالمات والتوصيات حتى لو كان الأمر بسيطا جدا، وحتى لو حاول البعض رفضها أو التخلص منها فإنه يصطدم بردة فعل سلبية لأنها تحولت مع مرور الوقت إلى ثقافة، بل إن البعض يعتبرها نوعا من الشهامة، لدرجة أن الشخص الذي يرفض هذه الأساليب تطلق عليه صفات سلبية من قبل أقاربه ومعارفه وأصدقائه، وأصبح الإنسان النظامي المخلص يوصف بأنه مسكين، معقّد، وغيرها من الأوصاف السلبية التي تطلق على من يجرؤ على تطبيق النظام وعدم تمرير المحسوبية بأي شكل.
هذه الممارسات ازدادت سوءا بمرور الوقت خلال السنوات الماضية، خصوصا بعد زيادة أعداد السكان بشكل كبير والاحتياج المتواصل للخدمات الوظيفية والصحية والتنموية والاجتماعية. ومهما تكن الأسباب، فالواسطة تعكس اختلالا أخلاقيا في منظومة القيم للفرد وللمجتمع، وتزداد قبحا عندما تأتي مشفوعة بإحساس كامل بعدم المساءلة والأمن من العقوبة، وأصبحت ممارسات مألوفة حوّلت قطاعات كاملة إلى محميات عائلية أو شللية أو فئوية أو إقليمية حتى إن بعض القطاعات أصبحت دائرة مغلقة ومقصورة على فئات معينة ولا أحد يستطيع أن يقتحم هذه الدائرة، حتى لو تقدم لهم من يمتلك مؤهلات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي يبرئ الأكمه والأبرص فإنه سوف يجد آذانا مغلقة عن سماع الحقيقة، وعيونا لا ترى مؤهلات غير المحسوبية، وسوف يقال له إنه غير مؤهل أو لم يجتز المقابلة الشخصية أو إنهم ليسوا في حاجته في الوقت الحاضر، وهو معيار مخادع يتغير في اليوم التالي ويدّعون أنهم في أمس الحاجة إلى خدمات شخص آخر لا يمتلك من المؤهلات إلا المحسوبية القبيحة.
انتشار الواسطة والمحسوبيات بهذا الشكل في المجتمع السعودي جعل الكثير من الفرص حكرا على أصحاب النفوذ وأصدقائهم من التجار ورجال الأعمال، والبعض منهم قد لا يكونون في حاجة لأن لديهم القدرة المادية على الوفاء بمتطلبات حياتهم. وهذا يعني ضمنا أن هذه الفرص حجبت عمن هم في أمس الحاجة إليها.
المقابلة الشخصية التي تحرص الكثير من القطاعات على استخدامها كأحد المعايير تخضع بشكل كبير للتحيز وعدم الموضوعية، ودائما ما تكون هي العذر الوحيد لاستبعاد من قاده حظه العاثر ليخضع لحكم أشخاص اختل لديهم ميزان العدل، فتجدهم يختلقون الأساليب الخاصة بهم ويعرقلون من لا يريدون من خلال معايير يستحدثونها، فتجدهم يضعون جزءا كبيرا من التقييم على المقابلة، وذلك من أجل إبعاد من لا يريدون واختيار من تواردت التوصيات بضرورة تعيينه، الأمر الذي دفع بعض الأقسام في جامعة الملك سعود إلى تقليل درجة المقابلة بشكل كبير لدرجة أنها لا تؤثر على المتقدم، بل إن هناك أقسـاما قامت بإلغائها بالكامل من أجل ضمان الحيـادية بشكل أكثر وإغلاق باب الأحكام الشخصية وعدم الموضوعية، وهو عمل تشكر عليه هذه الأقسام في الجامعة.
إذا كنا لا نستطيع التخلص من الواسطة فيجب علينا إغلاق أكبر قدر ممكن من الثغرات الموجودة في النظام التي يدخل معها خفافيش الظلام ويجيرون الفرص لمن لا يستحقها، يجب استبعاد المعايير التي تخضع للحكم الشخصي وضرورة ترتيب المتقدمين للوظائف والمنح وغيرها من حاجات الناس ومطالبهم، على طريقة صندوق التنمية العقاري الذي لم نسمع أنه قدم شخصا على الآخر ولا يستطيع أحد أن يتدخل في قوائم المنتظرين ويقدم شخصا على آخر، ولا توجد معايير أو مسوغات تسمح لأحد بالتلاعب فيها، أما الاحتكام للمعايير البشرية كالمفاضلة والمقابلة وغيرها من المعايير التي تخضع للحكم الشخصي فيجب استبعادها على الفور أو جعلها معايير إضافية للتثبت من الشخصية فقط، وليس لمن يجريها أن يرفض المتقدم إلا بتبرير منطقي ومقبول بالمعايير المألوفة، كأن تكون حواسه لا تساعده على القيام بمتطلبات الوظيفة، أما تركها بهذا الشكل فإنه يعني المزيد من المحاباة وتوظيف العلاقات وترك الضعفاء والمساكين فريسة سهلة لأصحاب النفوذ، حتى وصل الأمر إلى توظيف حديث التخرج وترك إنسان تخرج منذ عشر سنوات، ومنح الأراضي لصغار السن قبل أشخاص شابت ذوائبهم في خدمة الوطن. الواسطة لا يوجد فيها وجه حسن مهما حاول البعض تبرير أفعالهم بهذا المبرر، لأن السعي في منح الشخص ما لا يستحقه سوف ينتج عنه منع إنسان آخر من الحصول على هذا الحق، أما الشفاعة الحسنة فإنها لا توصف بالواسطة بأي شكل، ويجب التفريق بين الأمرين حتى لا نخلط الحق بالباطل.